* كثيراً ما يبلى المرء في المودة، بعد أن تعمر القلوب بمشاعر الود الذي ظن أنه لن يتصدع كما يقول متمم بن نويرة في رثاء أخيه مالك: وكنا كندماني جذيمة حقبة من الدهر حتى قيل لن يتصدعا فلما تفرقنا كأني ومالكاً لطول اجتماع لم نبت ليلة معاً ولكن صروف الليالي والأيام كثيراً ما تخذل المتوادين، وتعصف بجمعهم، وللشاعر الجهني سالم بن سليم الفايدي قصيدة من أعذب شعر التصبر، وهي من النماذج الشعرية التي تحاكي هذه الأغراض في شعر الفصحى، وقد وردت هذه القصيدة في كتاب "شعراء من الحوراء" لمؤلفه محمد حامد السناني، وتمتاز القصيدة بالسهولة في التعبير وحسن اختيار المفردات التي لا تستعصي على أي متلق في البلاد العربية، وهي تعالج موضوعاً شائعاً، يجد فيه كثيراً من المعاني ومن عبارات السلو والتأسي ما يخفف من ألم الفرقة. أما القصيدة فهي: يارجل عن تبع المقفين قفي اللي يقفي عنك لا تتبعينه لا تتبعين اللي خياله مقفي خليه وارتاحي بأمان وسكينه وكفي عن المسيار يارجل كفي مادام هو خلاك، لا ترتجينه مالك ورا المقفي منافع وشف شفك مع اللي بالوفا تحترينه الصدق واضح ما قفه ما يخفي والغدر من نظرة حجاجه وعينه ويارجلي ارتاحي ويانفس عفي واللي كذب ياعين لا تنظرينه لا تنظرين اللي ورا الحيد هف خلي حزاب الضلع بينك وبينه صفي حسابك مع أهل الغدر صفي سوي على فرقي المغاشيش زينه واستسعفي باللي لعهده يوفي اللي علامات الرضا في جبينه حياً لنيران الضمائر يطفي هذاك ما يستاهل اللي يهينه وعلاقات الود تؤلف صروحاً من الآمال والأماني وتعمر بها القلوب طويلاً، في سعادة يخيل لمن يعيشها أنه لا يقوى على تقويضها قوة فاعل، ثم يفاجأ أحدهما بتصدع جدار العلاقة لأوهى الأسباب التي قد لا يكون لها أساس من الصحة، فتذرو الرياح كل ما كان من عذب الحديث، وكل ما عقد من عهود، وكأن هذه العلاقة نشأت صدفة وتعمقت بحسن الظن، تزول أيضاً بعامل الصدفة ويوري شتاتها سوء النية الذي ينسي ما كان من لذات المناجاة والمصارحة وانفتاح القلوب بالبوح. وشاعرنا الذي يسري عن نفسه بهذه الأبيات يصف لنا في أبيات كيف يقع المرء في الهوى والوله والولع فيقول: صحيح اللي يقول ان الولع يأتي من الصدفات تعرض للمشقى صدفة ما هو بها داري انا اللي جيت ماشي واعترضت لصدفته بالذات غزالا غرته يسري على مصباحها الساري تصادفنا بلا ميعاد ما اصعبها من اللحظات هذيك اللحظة اللي جددت جرحي وهو باري لحظي بالعيون اللي سهمهن بلغ الطعنات طعني طعنة الذباح لولا دبره الباري أنا كاتب وقاري مير ماني حاسب الاوقات ولا ينجا من المكتوب لا كاتب ولا قاري من الملاحظ أن شعراء ما بين الحرمين الشريفين يستخدمون التنوين بالفتح لإقامة الوزن مثلما يستخدم التنوين بالكسر في مناطق أخرى. والصدفة حالة تهتبل في الشعبي والفصيح كأنما هي تبرير للوقوع في حالة العشق. وينوه الشاعر عن أهمية التعليم بأنه وقاية للمرء من الوقوع في المحاذير، إلا أنه يشير الى ألا مفر من القضاء والقدر الذي يقع على المتعلم والأمي وذلك في البيت الأخير من أبياته. وفي الأبيات التالية ينقل لنا الشاعر صورة جميلة، لا يرى هذا الجمال غير من عاش حياة القرية والبادية فتعلق قلبه بالسروح وعينه بمشاهدة الرعاة وهم يغادرون المضارب في طريقهم ومواشيهم الى المراعي والعودة منها. وقد تشهد المراعي أعمق من الصدفة في نشأة العلاقات الودية التي تجعل بعض الرعاة يتأخر في مغادرة الحي حتى يرى أين يتوجه من يحب من الرعاة ليسلك الاتجاه نفسه، ويذكر أحدهم أن جاراً لهم تأخر ابنه في المسراح ليعرف اتجاه من يحب، وقد أدرك الوالد ذلك فنهر ابنه قائلاً: اللي يتحرى "سندا" يبطي يزوك حماره لابدها من زندا تعطي لها معكارة والحب كما يصور شاعرنا في الأبيات التالية قد يستوطن القلوب فلا يبرحها، أثير لديها عامرة به، حتى يطرق من المواقف ما يحرك الشجن فلا يملك المعاني ما يمنع البوح. يقول الشاعر: أول دله قلبي وطابن جروحي والسر خافي للمخاليق ما بان واليوم هيضني حماماً ينوح يجر بأصواته على خضر الاغصان يسمع نياحه كل من كان يوحي وازريت اكن، وجاوب القلب عجلان الصدر به ناراً وهجها يفوح وقلبي على حسن التماثيل ولهان خلاني ابدي كل سري وبوحي واجاوب الالحان مع كل فنان وراع الهوى لا شاف برقاً يلوح يخيل البراق في غر الامزان يذكره بمنشرين السروح اللي شروق الشمس يسرح مع الضان كان سعيداً بوده، يكنه في صدره، دالها عن المعاناة، حتى أثاره حمام يغرد على أغصان الشجر، أثار شجونه فأنشأ هذه الأبيات تناغاماً مع هديل الحمام، ولا ندري لم الشعراء يفسرون التغريد بالنواح بدءاً من أبي فراس ومن قبله ووصولاً الى هذا الشاعر وغيره؟ فهل ياترى يأتي شعراء يفسرون التغريد بأنه غناء يعبر عن الفرح والابتهاج؟ أم انها حالة المعاناة التي يعيشها الشاعر يعكسها على الحمائم المغردة ظناً بأنها تشاركه مأساة الحزن والمعاناة، وهذا ما ألمح له الشاعر في البيت ما قبل الأخير، وبرره في البيت الأخير مثار الوجدان، وتحديد مثاره من يسرح بالضأن، كأنما يحدد سن من يهوى، فمن يسرح بالضأن هو من لا يقوى على صعود الجبال لوعورتها ورقته، فالضأن لا تتجاوز سفوح الجبال علواً ولهذا يرعاها الفتيات المترفات. ولا أعلم لم كتب "شروق"في البيت الأخير بدلاً من "شريق"؟ قد يكون النقل او التدوين، فالمعروف ان التصغير يصاحب أعذب الكلام لأنه للتمليح والاشفاق، وشعراء الغزل يفضلون ذلك.