إن تطلعات الداخل، وأزمة المحيط، ومؤثرات القوى الدولية، قد تفاعلت فيما بينها لترسم الصورة الراهنة لبيئة النظام الإقليمي الخليجي. ويشهد أمن الخليج تداخلاً بين أبعاده الوطنية والإقليمية والدولية، بدرجة قلّ نظيرها في أي نموذج آخر. وإذا كان أمن الخليج قد ارتبط عضوياً اليوم بأمن الطاقة النفطية، فإنه ارتبط قبل ذلك ولا يزال بأمن الممرات الاستراتيجية بين الشرق والغرب. وعلى الرغم من أنّ أمن الخليج يُعد أمناً إقليمياً بالمعنى النظامي للمصطلح، أي أنه يرتبط بأمن مجموعة من الدول الواقعة ضمن نطاقٍ جغرافي محدد، فإنّ نمط المحددات الداخلة في صياغة هذا الأمن تدفع باتجاه تفاعله ضمن نطاقٍ يفوق كثيراً حيزه الإقليمي. ويعتبر النظام الإقليمي الخليجي، من جهة أخرى، نظاماً فرعياً عن النظام الإقليمي العربي والنظام الشرق أوسطي. ويعود تشكل هذا النظام بالمعنى النظامي للمصطلح إلى مطلع العقد السابع من القرن العشرين، حين غدت كافة وحداته دولاً مستقلة. وعند الحديث عن مقاربة مملكة البحرين لأمن الخليج، نجد أنها قد أكدت منذ البدء على المنظور المحلي لهذا الأمن، الذي لا يستهدف طرفاً ولا يسعى للنيل من مكانة أحد، داعية للابتعاد عن سياسات التجاذب والاستقطاب، التي أضرت كثيراً بأمن الخليج وأساءت لفرص الاستقرار فيه. وشددت البحرين على ضرورة العمل على جعل التعايش والوئام حقيقة قائمة في هذه المنطقة، وأن يغدو ذلك هدفاً يسعى إليه الجميع. وقد عبرت عن المواقف البحرينية هذه العديد من الخطب والتصريحات الرسمية، التي أدلى بها كل من عاهل البحرين جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة، ورئيس الوزراء البحريني صاحب السمو الشيخ خليفة بن سلمان آل خليفة. وفي التوصيف الاستراتيجي لبيئة الأمن في الخليج، يمكننا القول إن النظام الإقليمي الخليجي قد شهد ما يمكن تعريفه بحذر بأنه شكل من أشكال توازن القوى غير المستقر، الذي غابت فيه المفاهيم الواضحة للردع. وكان من نتاج ذلك أن انزلقت المنطقة إلى حربين مدمرتين في غضون عقد من الزمن، كما وجد الغزو الأمريكي للعراق إحدى خلفياته المركزية في حرب الخليج الثانية ذاتها. هذه الحرب التي مازالت نتائجها حاضرة في مجمل الحراك الأمني والسياسي الخليجي والعربي. وفي الأصل، كان الغزو العراقي للكويت نتاجاً قاسياً للحرب العراقية الإيرانية ذاتها. وهنا استكمل النظام الإقليمي الخليجي تفاعلاته الصراعية، إنما ببعدٍ دولي أكثر وضوحاً. وفي حقيقة الأمر، فإن دعاوى العراق التاريخية في الكويت لا ترتكز إلى أي سند أو دليل ذي قيمة، وأن هذه الدعاوى لم تكن سوى شعاراً أخفى بين طياته نزعة قطرية ضيقة، لم تقم وزناً لمصالح العرب وقضاياهم المصيرية. وأن النظام العراقي أخذ يتاجر بآلام الجماهير العربية ويدغدغ أحاسيسها بشعارات هو في الأصل بعيداً عنها. وقد أفرز انهيار التوازن الاستراتيجي في خليج ما بعد عاصفة الصحراء عدة معطيات ذات تأثير بعيد المدى على تفاعلات النظام الإقليمي الخليجي، بل إن هذا النظام مازال أسيراً لها. وفي العام 2003، جاء الغزو الأمريكي للعراق ليرمي بنمط جديد من التداعيات الحادة على تفاعلات النظام الإقليمي الخليجي. وما يمكن قوله ابتداءً هو أن سقوط حكومة الرئيس العراقي صدام حسين قد يكون علامة فاصلة بمعايير السياسة والتاريخ، لكنه ليس كذلك بمعايير التوازن الاستراتيجي؛ ذلك أن العراق قد عزل استراتيجياً وحُيّدت قوته منذ حرب الخليج الثانية. وفي المقاربة الأولية للتداعيات، يمكن ملاحظة أن العراق الجديد قد أضحى ثاني دولة عربية، بعد الصومال، تغدو مسرحاً لعملية تصفية حسابات بين الولاياتالمتحدة وجماعات العنف السياسي. على أن التجربة العراقية جسدت على هذا الصعيد استعادة أكثر عنفاً ودموية للتجربة الصومالية، وان جماعات العنف سرعان ما مدت عملياتها لتطال المدنيين العراقيين أنفسهم. وقد رمت بيئة الأمن الداخلي العراقي بتداعياتها الضاغطة على دائرة واسعة ضمن المحيط الجغرافي المجاور للعراق، وبات للوضع الأمني العراقي غير المستقر تأثيراته المباشرة على دول الخليج العربية. كذلك، بدا جنوب العراق، لسنوات عدة، خالياً من الضبط الأمني لأية قوة نظامية، وبدت المليشيات المسلحة وقد فرضت نفسها على هذا الجنوب، بما في ذلك حقوله النفطية وموانئه وحدوده الدولية. وكانت هذه المليشيات هي من "يحرس" الحدود، ويدير الجمارك، ويتحكم في منافذ العبور. ولقد حدث هذا على الرغم من كل التطمينات والضمانات التي قُدمت للخليجيين في جولات عدة من مؤتمرات الجوار العراقي، كما في مناسبات أخرى مختلفة. هذا على صعيد بعد الأمن الداخلي، أما المناخ السياسي المحلي للعراق، فقد يكون هو الآخر مصدر تقاطب طارد لفرص التوافق الإقليمي، أو لنقل لفرص بناء علاقات خليجية عراقية راسخة ومستقرة، على اننا لا ندعو هنا للتدخل في خيارات العراق الداخلية، بل هي دعوة لتحييد هذه الخيارات، أو لنقل بعض مكوناتها الضاغطة، بحيث لا تدفع باتجاه إعادة إنتاج التقاطب الأيديولوجي بين العراق وجيرانه الخليجيين. وفي سياق مواز، يمكن التشديد على حقيقة أن العلاقات الخليجية الإيرانية لا يمكن هي الأخرى أن تغدو مستقرة، غير مضطربة أو وجلة، دون مقاربة خليجية واضحة للواقع العراقي، مقاربة تجيب على ما يريد الخليجيون فعله، وما بمقدورهم تحقيقه، وتحدد بجلاء خطوط الالتقاء بينهم وبين بقية الفرقاء. وفي الطليعة منهم الأطراف العراقية ذاتها. وبعد ذلك، لا بد لدول الخليج أن تحدد رؤيتها للمدى الذي يمكن أن تذهب إليه في ضبط سياستها الإقليمية على إيقاع الحدث العراقي، وما هي طبيعة تقديرها لمحصلة ذلك على مناخ الأمن الإقليمي، كما على مناخ الداخل العراقي ذاته، إذ لم يعد بالمقدور الفصل بين الأمرين. وخارج الجوار المباشر، بدت قضايا الأمن في الخليج على صلة وثيقة بالجوار الآسيوي، وتحديداً في جنوبه. وثمة وحدة ربط على مستوى الحاسة الاستراتيجية بين تفاعلات الأمن في آسيا وتلك السائدة في منطقة الخليج العربي. وهذا يلامس على وجه الخصوص تفاعلات الوضع في الخليج مع خمس دول جنوب آسيوية، هي الهند وباكستان وسيريلانكا وجزر المالديف وبنغلاديش، وحيث تربط هذه الأخيرة جنوب القارة بجنوبها الشرقي عبر بورما. يضاف إلى ذلك أفغانستان، التي ترمي التطورات فيها بتداعياتها المباشرة على الأوضاع في الهند وباكستان، وعلى علاقاتهما البينية، واستتباعاً علاقاتهما الخارجية، وذلك على النحو الذي نشاهده اليوم. ومن المنظور الخليجي المحلي، يصعب فصل حالة الأمن في هرمز عن الظروف السائدة في بلوشستان، وهذا ما أثبتته بشكل خاص أحداث العقدين السابع والثامن من القرن الماضي، بل إن الروس سعوا في ثمانينيات القرن العشرين للتأثير على مجريات الأمن في هرمز وبحر العرب عبر دعم الحركة الانفصالية في بلوشستان، حيث قدموا لها مختلف أشكال الدعم المادي والسياسي. ولم يكن ذلك الوضع سهلاً في حسابات الأمن الإقليمي، وهو قد عاد اليوم مثيراً للهواجس والقلق، وإن ضمن حيثيات متباينة ولاعبين جدد، وبأجندة وأهداف مختلفة عما كان عليه الحال في العقد الثامن من القرن العشرين. وبصفة عامة، هناك ترابط على مستوى الممرات البحرية الدولية بين الخليج وبحر العرب، حيث تقع كل من كراتشي الباكستانية وبومباي الهندية على ذات الامتداد الذي تقع عليه عدد من المدن الخليجية. كذلك، تمثل منطقة جنوب آسيا نقطة التقاء بين الخليج وجنوب شرق آسيا وأستراليا، وبالتالي تمر عبر جنوب آسيا الكثير من السلع والخامات الحيوية المتحركة بين المنطقة والشرق الأقصى. وإنّ حالة الأمن في الجنوب الآسيوي تعكس نفسها بالضرورة على أمن الممرات الدولية المعنية بالتجارة والنفط الخليجي، وأي اضطراب في هذه الحالة من شأنه أن يعكس نفسه على شكل أضرار مباشرة على تجارة الخليج الدولية. ولعل أحد التحديات الماثلة للعيان اليوم تتجلى في الحوادث التي تتعرض لها وسائط النقل المدنية وهي تمخر البحار والمحيطات، وخاصة في المنعطفات التي تمثلها المضايق البحرية، التي تعد المكان الأكثر سهولة للهجوم على البواخر والناقلات والاعتداء على أطقمها وممتلكاتها. وترمي هذه الحوادث بتداعياتها المباشرة على إمدادات الغذاء وأمن الطاقة والأمن البيئي للبحار والشواطئ، وهي تمثل نوعاً من الاعتداء على السلامة البشرية. وفي التحليل الأخير، فهي تهديد رئيسي للأمن الإقليمي، بل والدولي أيضاً. وبالتوازي مع السياق الاستراتيجي العام لمقاربة الأمن في الخليج، تبرز قضايا التعاون والوحدة باعتبارها إحدى العوامل وثيقة الارتباط بمستقبل الأمن في هذه المنطقة. وفي كافة مقارباتها ذات الصلة، أكدت مملكة البحرين على أهمية الارتكاز إلى القواسم المشتركة الجامعة، على النحو الذي يعزز مسار التكامل ويعمق مضامينه، ويعكس حقائق التاريخ والعيش المشترك بين أبناء هذه المنطقة. وتبدو تجربة مجلس التعاون الخليجي ذات علاقة بكل الحديث الدائر اليوم بشأن التعاون والاندماج الإقليمي. وما يمكن قوله في هذا الصدد هو أن الخليجيين معنيون ببلورة مقاربة عصرية لخيارهم الوحدوي، هذا الخيار الذي يجب أن يرتبط بمعطيات الحاضر أكثر من تعلقه بالتاريخ. ولا بد من التأكيد على حقيقة أن الوحدة هي نتاج تفاعلي بين عناصر الجغرافيا والتاريخ، لكنها لا تتسق اتساقاً عفوياً، بل تأتي إفرازاً إرادياً للمسار التفاعلي، وتتشكل وفقاً للخيارات الفكرية والمعرفية للقوى الفاعلة والمؤثرة في هذا المسار. إن العلاقات القائمة بين دول مجلس التعاون الخليجي تستند في بعدها الأكثر مركزية إلى وحدة النسيج الاجتماعي، الذي بدا متزايداً في ترابطه. وهذه العلاقات ليست نتاجاً صرفاً للعامل الجغرافي، بل إفراز لمعطى بشري بالمرتبة الأساس. وقد تجلى هذا المعطى في بُعدين جوهريين: هما النسق الكثيف من الروابط الاجتماعية والثقافية، والشعور المشترك بوحدة المصير والانتماء. إن العامل البشري هنا قد طوّع معطيات الجغرافيا، أو لنقل قد استنفد هذه المعطيات باتجاهات دافعة للعيش المشترك. ونحن نتحدث عن الحاضر بقدر حديثنا عن التاريخ، الذي كان فريداً هو الآخر في هذا النجاح.