سيذكر البحرينيون، كما سائر العرب، الملك فهد، رحمه الله، القائد الكبير الذي أعطى الكثير لأمته ودافع عن قضاياها المصيرية. لقد استقبل البحرينيون بالحزن والأسى وفاة هذا القائد الفذ، مستعيدين صورة عهده الذي ازدهرت فيه علاقاتهم مع المملكة العربية السعودية الشقيقة. إن العلاقات البحرينية السعودية يمكن النظر إليها باعتبارها نموذجاً متقدماً للعلاقات الثنائية، المستندة إلى إطار متين من القواسم المشتركة. ويمكن النظر إلى المعطيات الداخلية في كل من البحرين والسعودية باعتبارها الدافع الأهم باتجاه تشكيل هذه العلاقات. وتحديداً، يمكن القول إن هذا النسق المتين من العلاقات الثنائية ليس سوى نتاج تراكمي لعملية التفاعل بين القواسم المشتركة متعددة الأبعاد . وإن الحديث عن دور المعطيات المحلية في صنع السياسة الخارجية يمتد إلى كامل البناء المادي والمعنوي للدولة. وإن السلوكية الخارجية للدول تجاه الأطراف الأخرى، أو تجاه القضايا الدولية، تختلف باختلاف الاتجاهات المحلية الفاعلة والموجهة لعملية صنع القرار الخارجي في مرحلة معينة. وحتى مع بقاء الأهداف الأساسية ثابتة، لاعتبارات مختلفة، فإن كيفية خدمة هذه الأهداف تعتمد بشكل رئيسي على الإدراك الحسي للاتجاه السائد داخل الدولة. ويحدد هذا الإدراك الحسي نسق القيم والمفاهيم التي تشكل الإطار المفهومي لكل اتجاه. وثمة مقولة جوهرية في علم السياسة مفادها أنه لا يمكن أن يكون هناك حد معين دقيق يفصل بين النواحي الجغرافية البحتة للعلاقات بين الدول وبين النواحي الأخرى. وإذا نظرنا إلى العلاقات بين الدول على أنها محصورة فيما يشبه الغرف المحكمة، فإن معنى هذا أننا ننكر الدليل المتوافر للبشرية من الملاحظة والاستنتاج المتسمين بالإدراك. وفي الواقع فإن هذه العلاقات وما يصاحبها من معطيات، كغيرها من العلاقات البشرية، لها طابع مركب تمتزج فيه عوامل كثيرة لدرجة لا يمكن فصلها أو التعامل معها بنوع من الانتقائية. وفي وقت مضى، كانت العلاقات الدولية محصورة في قطاع جغرافي محدود، وكانت قواعدها في كل منطقة معزولة عن الأخرى. بيد أن الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية قد فتحت عصر السياسة الخارجية العالمية، وأصبحت الدول قادرة على شن ردود فعل في جميع أرجاء العالم، سواء بفرض قوتها مباشرة، أو لأن الأفكار تنتقل في وقت متزامن تقريبا، أو لأن التنافس الأيديولوجي يعطي أهمية خاصة للمشاكل حتى الثانوية منها في المجال الجيوبوليتيكي. والحقيقة التي لا اختلاف عليها هي أن الدولة الحديثة والمنظومة الدولية قد تطورتا تاريخيا في وقت متزامن، فمع بداية تشكل الدولة في أوروبا خلال القرن السادس عشر أخذ مفهوم السيادة يتأكد على أساس وطني، وبدأت تتشكل في الوقت نفسه العلاقات بين هذه الدول. أي بتعبير آخر بدأت المنظومة الدولية بالتشكل هي الأخرى. وهكذا قامت علاقات متبادلة باتجاه تعزيز كل من هذه المنظومة والكيانات السياسية المستقلة. كما أن المنظومة الدولية نفسها فرضت سمات الدولة الحديثة ومواصفاتها ومستلزماتها. ماذا تعني هذه المقولات الثلاث للعلاقات البحرينية السعودية؟ إن المناخ المتين لهذه العلاقات لم يكن نتاجا صرفا للمعطى الجغرافي، بل إفرازا لمعطى بشري أولا وقبل كل شيء وقد تجلى هذا المعطى في بعدين أساسيين هما النسق الكثيف من الروابط الاجتماعية والثقافية، والشعور المشترك بوحدة المصير والانتماء . إن العامل البشري هنا قد طوع معطيات الجغرافيا، أو لنقل قد استنفد هذه المعطيات باتجاهات دافعة للتعاون والعيش المشترك.ونحن نتحدث هنا عن الحاضر بقدر حديثنا عن التاريخ الذي كان فريدا هو الآخر في هذا النجاح، حيث عاش الأجداد مؤتلفين ومتعاضدين على امتداد الصحاري والسهوب. وكان نجاح الماضي مقدمة لنجاح الحاضر، أو لنقل استنفد الحاضر رصيدا تاريخيا فذا. وهذا ليس كلاما شاعريا، أو من وحي عواطف جياشة، بل إن القراءة الصحيحة لتاريخ العلاقات البحرينية السعودية لابد أن تقودنا إلى هذا الاستنتاج. على صعيد آخر، يمكن القول إنه فيما يتعلق بهذه العلاقات، فان كل من معطى الجيوبوليتيك ومعطى العولمة قد ارتبطا بعلاقة طردية موجبة، على خلاف القاعدة السائدة. بمعنى أن عامل الربط الجغرافي الإقليمي قد أضحى أكثر فاعلية وتأثيرا بفعل تقنيات التواصل الحديث التي عززت من انسياب الأفكار والمفاهيم كما البشر أنفسهم، وهي هنا قد كثفت من تواصل العائلات والأسر، المتواصلة أصلا.وهذه المقولة تؤكد نفسها أيضا على الصعيد الرسمي العام. على أن ما يجب التأكيد عليه بوجه مجمل أنه على الرغم من استمرارية الجيوبوليتيك كأداة أساسية في تحليل العلاقات الدولية فان دورها اليوم ليس كما كان عليه قبل عقدين من الزمن، بل هي في ثمانينات القرن العشرين أقل تأثيرا بما لا يقاس مما كانت عليه في الستينات والخمسينات من القرن نفسه. وهذه مسألة لا بد من أخذها في عين الاعتبار عند السعي لبلورة أية مقاربة مستقبلية بعيدة المدى للعلاقات البحرينية السعودية. إن معطيات العولمة ربما تتفوق على معطى الجيوبوليتيك أو هي قد تفرض مزيدا من التحديات عليه، ولهذا لابد من احتسابها كعامل متغير تتم دراسة وتتبع معدلات واتجاهات النمو فيه، وبما يمكن البلدين من ضبط إيقاعاته لمصلحة روابطهما المشتركة. من جهة ثالثة، إن تطور منظومة العلاقات الدولية، بما عنى من تعدد للمؤسسات والأطر الأممية الطابع، ووجود كل من البحرين والسعودية في الكثير منها، قد عنى بالضرورة تطورا رأسيا في التفاعلات البحرينية السعودية. على الصعيد الاستراتيجي العام، يمكن القول إنه إذا كان انتهاء الحرب الباردة قد مثل إيذانا بانتهاء المكانة الجيوبوليتيكية لعدد من الدول والمناطق الإقليمية في العالم، فإن مكانة البلدين في الجيوستراتيجيات الدولية بقيت ثابتة، هذا إن لم تكن قد ازدادت تطورا. بيد أن مضمون بيئة الخليج الاستراتيجية قد أضحى في الوقت نفسه أكثر حساسية في ضوء انهيار التوازن الاستراتيجي الإقليمي، فقد أضحينا جميعا معنيين بهذا المتغير التاريخي.وبالقدر الذي تزداد فيه روابطنا المشتركة متانة بالقدر الذي تزداد فيه قدرتنا على الاستجابة للتحولات الجارية من حولنا . ومن نافل القول إن العلاقات الثنائية بين بلدين متجاورين، أو بين مجموعة بلدان متجاورة، لا بد أن تتأثر بالتطورات الجارية ضمن المحيط الجيوسياسي الأوسع. وفي هذا السياق، ترمي الأوضاع في كل من العراق وإيران واليمن بإيحاءاتها على البيئة السياسية الخليجية، ضمن أنساق ومستويات متعددة. كما تعكس الخيارات الخارجية للدول الثلاث نفسها على هذه البيئة. وفي التحليل الأخير، فإن الاستقرار الإقليمي لا يمكن تجزئته، كما أن تعزيز المسار التعاوني للمجموعات الإقليمية لا يمكن تحقيقه في ظل بيئة مضطربة. وفي التجربة التاريخية يمكن أن نلحظ أن جهود تحقيق الاستقرار في أوربا قد اصطدمت لردح طويل من الزمن بالتوترات الفرنسية الألمانية. ففي القرن السابع عشر مثلت إنجلترا وهولندا أقوى دولتين في القارة، فهولندا التي كانت تدعى «الأقاليم المتحدة» تمكنت من السيطرة على التجارة البحرية وغدت القوة الاقتصادية الأولى في العالم، وذلك حتى العام 1672. أما إنجلترا فقد أخذت تؤكد قوتها في مواجهة فرنسا وهولندا،حتى أضحت في نهايات ذلك القرن أعظم قوة بحرية. بيد أن الخطر الداخلي الأهم على أوروبا بقي متجسدا في التنافس الفرنسي الألماني، وهذا ما أثبتته مسيرة حروب متتالية توجت بالحربين العالميتين الأولى والثانية. ومن هنا، بدا من الضرورة بمكان أن يبدأ أي حديث عن وحدة أوروبا بالحديث عن العلاقات الفرنسية الألمانية. إلى ماذا يقودنا ذلك ؟ يقودنا ذلك إلى القول إن استمرار المكونات التاريخية القلقة والمتوترة في البناء الإقليمي الخليجي، وخاصة تلك السائدة في علاقات العراق بكل من الكويت وإيران، والتي قادت إلى الحربين الخليجيتين الأولى والثانية، من شأنها أن تحول دون الوصول إلى بيئة إقليمية مستقرة، بل هي تحول دون ذلك بالضرورة. وفي السياق ذاته، فإن الاستقرار الإقليمي لا يمكن تحقيقه في ظل خيارات دولية متضاربة ومتناقضة. ومادام الأمر كذلك، فإن دول منطقة الخليج والجزيرة العربية معنية بالبحث عن آليات قادرة على إزالة الأنماط القلقة والمتوترة من المكونات التاريخية في البناء الإقليمي التاريخي، أو الحد منها. كما يفترض بهذه الآليات أن تكون ذات مصداقية على مستوى بلورة حد أدنى من التفاهمات والمبادئ الإرشادية المطوقة للتوترات المتأتية على خلفية تباين الخيار الدولي للأطراف الإقليمية أو لمجموعة منها. إن أحدا لا يدعو للقفز على حقائق الجغرافيا والتاريخ، لكن لا يجوز في الوقت نفسه النظر إلى هذه الحقائق والمعطيات نظرة قدرية لا إرادة لبني البشر فيها. إن ثلاث حروب جرت في هذه المنطقة ولا زالت واحدة منها مستمرة، بيد أن ذلك لم يدفع دولها حتى الآن للجلوس وجها لوجه وتدارس عوامل الصراع ومسبباته، فضلا عن الآليات الكفيلة بالحيلولة دون تكراره. وهذا أمر مثير للاستغراب بل هو محير إلى حد كبير. فتجارب التاريخ منذ معاهدة ويستفاليا التي أنهت الحروب المذهبية في أوروبا وحتى اليوم تعلمنا بأن الدول والمناطق التي تشهد حروبا تتجه، بمجرد أن تضع الحرب أوزارها، للبحث عن ترتيبات وقواعد خاصة بترسيخ الاستقرار. وهي قد لا تنجح في ذلك، كما حدث بالنسبة لمعاهدة فرساي بعد الحرب العالمية الأولى، لكنها تسعى على أي حال نحو ذلك. وفي التجربة الإقليمية الخليجية، يمكن ملاحظة أنه بعد الحرب العراقية الإيرانية، كان يفترض أن يقود قرار وقف إطلاق النار - الذي أحاطه مجلس الأمن الدولي بمجموعة متواضعة من إجراءات تعزيز الثقة- إلى شيء من الاستقرار الإقليمي المعزز هيكليا، بيد أن النظام العراقي وضع مضمون القرار خلف ظهره بمجرد أن وضعت الحرب أوزارها، تماما كما فعل من قبل باتفاقية الجزائر. وتاليا، أتت حرب الخليج الثانية لتعيد تشكيل تفاعلات النظام الإقليمي الخليجي دون أن تغير من مضمونها السالب، بل عمقت من هذا المضمون في الاتجاهات كافة.وبعد الحرب، لم يتحدث أحد عن ترتيبات إقليمية، ودفع انهيار التوازن الاستراتيجي في النظام الإقليمي باتجاه تضخم الهواجس الأمنية لدى دول المنطقة، كما غدا العراق معزولا ومقيدا هيكليا. أما اليوم، فإن الوضع يبدو أكثر خطورة بما لا يقاس .قد يكون سقوط نظام الرئيس صدام حسين علامة فاصلة بمعايير السياسة والتاريخ، لكنه ليس كذلك بالمعايير الاستراتيجية ؛ ذلك أن العراق قد عزل استراتيجيا وحُيّدت قوته منذ حرب الخليج الثانية . والعراق الذي لا زال معزولاً استراتيجياً، أضحى بؤرة توتر تصب شررها في كل اتجاه. وبعد أن كنا نتحدث عن معضلة التوازن اقتربنا من الحديث عن معضلة الأمن ذاته.كذلك، فان الوضع في العراق مرشح في المدى المتوسط لأن يكون عامل تقاطب إقليمي جديد، يضاف إلى العوامل الأخرى التي لا زالت تحوم في سماء المنطقة. وإن دول المنطقة مدعوة لوضع أسوأ السيناريوهات الخاصة بمستقبل الوضع العراقي والتعامل مع الأحداث على أساس ذلك.وهذه بالطبع ليست دعوة للتشاؤم بل دعوة للأخذ بالحيطة والحذر. إن السلطة المركزية في بغداد قد تتراخى قبضتها، وإن الخيار الفيدرالي قد يولد ميتا، بمعنى أن لا يكون سوى مقدمة لتجزئة العراق إلى كيانات عرقية ومذهبية. وعلى دول المنطقة أن تسعى لأن تكون طرفا فاعلا في توجيه سفينة الأحداث في العراق، وعليها أن تعقد التفاهمات الضرورية بهذا الخصوص مع الولاياتالمتحدة والفرقاء العراقيين أنفسهم. وإن العلاقات العراقية الخليجية القادمة يجب أن ترتكز بقوة إلى عبر الماضي ودروسه . والحذر من استسهال التحديات الهيكلية التي فرضتها على هذه العلاقات معطيات الجغرافيا والتاريخ وأخطاء البشر. وإن تحليل التاريخ وليس وضعه خلف ظهورنا هو ما يجب علينا القيام به . إن دول المنطقة تمتلك من المقومات والقدرات وخبرة التاريخ ما يؤهلها للتحرك باتجاه بلورة أطر قادرة على خلق استقرار إقليمي معزز هيكليا،من شأنه أن يتيح للمنطقة فرص السير باتجاه التنمية الشاملة، ويحقق وعد شعوبها في الرفاه والازدهار. [email protected]