لن تكون هذه القراءة مقاربة لعلائق الثقافي بالاقتصادي، بل هي مجرد قراءة عابرة للتلقي الايديولوجي؛ بوصفه فعلاً ثقافياً خاصاً، يحاول أن يمرر خطابه من خلال التأكيد على إخفاق الآخر أو من خلال التأكيد على تفسير: ماوراء اقتصادي للأزمة الراهنة. فهذا التفسير الذي يتبرع به الخطاب التقليدي، أو ما يمكن تسميته بخطاب الجهل، هو فعل ثقافي منقوع بالايديولوجيا، فعل عابر للاقتصاد كبنية شبه مغلقة؛ تفسر ذاتها بذاتها. وهذا ما جعل هذه القراءة تتجه صوب الثقافي، بوصفه هو الأزمة الحقيقية هنا. لهذا ستكون هذه القراءة قراءة ثقافية، تحاول تشريح القراءة التي صدرت عن خطاب الجهل والتقليد. كما لا يخفى؛ ابتهج خطاب الجهل بهذه الأزمة المالية العالمية، التي طالت العالم المتحضر، خاصة وأن عمق الأزمة ومنشأها في الولاياتالمتحدة، التي يكن لها خطاب الجهل الكثير والكثير من العداء. ابتهج خطاب الجهل إلى درجة الشماتة - كسلوك بدائي ملازم له - وظن أن هذه الأزمة هي بداية النهاية لعدوه التاريخي المفترض، مطعّماً كل هذه الشماتة بقراءة تقليدية، بحيث تستحيل الأزمة المالية - في تفسير خطاب التقليد - إلى عقاب إلهي، يكون مقدمة ل (الوعد الصادق)، الحلم الذي يتراءى له بين اليقظة والمنام! هذا الابتهاج طبيعي في سياق خطاب الجهل. فخطاب الجهل قائم على تصورات مُضللة، تكونت بفعل الثقافة الشفهية الاجتزائية، ذات الانتقاء الرغبوي. هذا الخطاب يعاين الأفكار والوقائع الراهنة بعيون تاريخية، لا تستطيع رؤية الشمولي والمركب؛ لأنها - من حيث هي نتاج تفاعل تاريخي بسيط - تكوّنت لتعاين البسيط والجزئي. فهي تفسر الأفكار والوقائع من حيث هي وقائع جزئية معزولة، لا تتداخل المؤثرات فيها إلا بالحد الأدنى، الذي يقود إلى التركيب، بقدر ما يقود إلى رسم حدود الجزئي والمحدود. والوعي الذي تكوّن على هذا النحو، وعي محدود، لن يستطيع معاينة الإشكاليات الراهنة التي تعولمت، وانتفت فيها حدود الزمان والمكان، فأصبح فيها العالم في سفينة واحدة؛ إن غرقت فسيغرق الجميع. لا تكمن مأساة خطاب الجهل في الجهل كحالة أولية، فهو - كما قلت من قبل - جهل فاعل مُضلل، يطرح بوصفه علماً. فهو - على هذه الصورة - خطاب يستعصي على العلم، بل هو خطاب نفي للعلم، ايديولوجيا تمتهن حرب العلم؛ كضمانة أولية لبقائها. وهذا ما يجعل المأساة أعمق؛ عند محاولة التصدي لهذا الخطاب، الذي لا يُغيّب الإشكالية، ولكنه يزيفها. ولا يكتفي بهذا التزييف، بل يؤسس له، ويثبته في أعماق الوعي، ويشده إلى مفردات المقدس، إلى درجة قد يصبح الشفاء منه في حكم المستحيل. التقليدي الذي جلس (القرفصاء!) مغتبطاً بجهله وبترفه الذي لم يكدح في طلبه، يتصور أنه في معزل عما يجري في العالم، وأن العالم سيتزلزل من أقصاه إلى أقصاه؛ بينما سيكون ما يحدث برداً وسلاماً عليه. بل ربما يمر في لحظ إفاقة استثنائية جزئية فيدرك أن شيئاً من الضرر لا بد أن يلم به. لكنه يقبل بهذا الضر؛ ما دام المتضرر الأكبر هو ذلك العدو الموهوم. ما لا يمكن أن يفيق عليه الوعي التقليدي، أنه المتضرر الأول، قبل عدوه الموهوم، وأن ذلك العدو الذي ينهض اقتصاده على قاعدة إنتاج راسخة، لن يكون أكثر ضرراً من التقليدي الذي لا يعدو كونه كائناً طفيلياً استهلاكياً، لا ينتج سوى (فحيح) الكلام! قد يرى بعضهم أن هذا لا ينطبق إلا على كبار سدنة خطاب التقليد، وأن الجيل الجديد من مريدي هذا الخطاب، أصبح يعي الحد الأدنى من أبجديات المعاصرة، وأن ما يمس هذا الجيل في نشاطه الاقتصادي المباشر، أحدث لديه وعياً بمدى عولمة الاقتصاد. وكل هذا صحيح. لكن، تبقى الإشكالية مجزّأة، لا يعيها هذا الجيل إلا من خلال ضررها المباشر عليه. أما ما سوى ذلك، فهو يتمنى - جراء التماهي مع خطاب الردح التقليدي - سقوط الاقتصاديات العالمية، وانحسار النفوذ الأمريكي، بل ربما يزداد حمقاً؛ فيتمنى اشتعال العالم بالصرع؛ لأن هذا - في ظنه - جزء من تحقق وهن الأعداء. ربما يظن القارئ أنني أبالغ في تصوير القراءة التقليدية لهذه الأزمة العالمية. لكن، من تابع القراءات التقليدية على مدى أكثر من عشرين يوماً؛ فسيرى أنني لم أعرض إلا القليل، وأن فضائح هذا الخطاب التقليدي المؤسس على قاعدة من الجهل بجميع فروع المعاصرة، من ايديولوجيات عامة، واقتصاديات عينية، وسياسات ما بعد عقائدية، يستحيل حصرها في مقال. بل يوجد في هذا الخطاب من أنواع التبرير والتفسير ما لو ذكرته؛ لتصوره القارئ ضرباً من الهجاء. يمكن أن يعذر خطاب الجهل بجهله بأبجديات الاقتصاد المعاصر؛ لو أنه لم يؤسس على هذا الجهل نتائج ثقافية، ذات منحى ايديولوجي. لا أحد يلزم خطاباً ما، أن يكون واعياً بمجريات خطاب آخر؛ ما دام أنه لا يحاول أن يتقاطع معه في الفكر أو الواقع أو كليهما. أما إذا أراد التقاطع معه على أية صورة؛ فلا بد من وعي تام، يمكنه من التقدم بنتائج تحظى ولو بالحد الأدنى من الانضباط. وهذا ما لم يتوفر عليه خطاب الجهل والتقليد. يرتبط بهذا الخطأ المنهجي الفاضح خطأ آخر. فخطاب التقليد تجاوز عالم الشهادة إلى عالم الغيب؛ أصبح يفسر ما حدث على أنه غضب من الله. فهو لم يفسر الأزمة بوقائع معلوماتية مغلوطة، أو حتى بإدراج معلومات صحيحة في خارطة إدراكية لا تستوعب حجم الحدث، وإنما تجاوز كل ذلك، إلى تحديد مواقع غضب الله. وطبيعي هنا، أن تختفي الواقعية العلمية التي تضيء الحدث بمنطق الحدث، أي الاقتصاد بمنطق الاقتصاد. وهذا ما يترك مساحات من الفراغ التأويلي، الذي يتيح لخطاب الجهل أن يملأها بما شاء. وبما أنه خطاب لا يملك سوى الجهل المنظم على هيئة علم!، فسيراكم الجهالات في هذه الفراغات التأويلية؛ ليُخرج لنا أجيالاً من فاغري الأفواه - بلاهة - أمام وقائع معاصرة، تتحدى محدودي الأفهام. ولأن قراءة خطاب الجهل للأزمة كانت قراءة موجهة بصخب الايديولوجيا الغفوية، فقد أصبحت فرصة للهجوم على النظام الاقتصادي الرأسمالي، ومن ثم الهجوم على القاعدة الايديولوجية لهذا النظام: الليبرالية. فخطاب الجهل، من حيث هو خطاب عنصري شمولي، يعي - بداهة - أن الليبرالية هي الخطاب الإنساني النقيض له. ولهذا، لم يكن غريباً أن يتوهم - بحاسة رغبوية - سقوط النظام الرأسمالي، ومن ثم سقوط لليبرالية، فهو يبني على هذا الوهم وهم انتصار قادم له، حيث الحلم التقليدي بأن تخرج طلائع الفتح التي ستملأ الأرض عدلاً كما ملئت جوراً، سواء خرجت من مغارات تورا بورا، أو من الجنوب اللبناني؛ لا فرق! طبعاً؛ لا يدرك خطاب الجهل أن الاقتصاد الرأسمالي اقتصاد مرن متنوع، قادر على امتصاص الدورات الاقتصادية بإجراء كثير من التعديلات المرحلية. لا يعي هذا الخطاب الذي يعيش لحظته، أن الليبرالية الحاضنة لهذا الاقتصاد نشأت منذ أكثر من أربعة قرون، وأن بذورها الأولى كانت منذ ظهور النزعة الهيومانية، ثم تجذّرت بظهور الإصلاح الديني البروتستانتي، الذي دفع باتجاه رؤى أكثر ليبرالية، واقتصاد رأسمالي، مما دعا عالم الاجتماع: ماكس فيبر أن يفسر النظام الرأسمالي بالأخلاق البروتستانتية. وهذا يعني أن الرؤية الليبرالية، وما أفرزته من نظم اقتصادية رأسمالية، تمتد في عمق التاريخ الغربي، هي رؤية خلاّقة، وأن بها، وعليها، نهضت الحضارة الغربية كلها عبر تقلبات شديدة، وأزمات حادة، استطاع هذا النظام - بما يمتلكه من طاقات ذاتية كامنة في صلب الرؤى الليبرالية المبدعة باستمرار- أن يتجاوزها، وأن يثبت الآخرون - في المقابل فشلهم الذريع في مواجهة أزماتهم؛ كما في النظم الاشتراكية، أو حتى في مواجهة تخلفهم الأولي، كما هو واقع في العالم الثالث النائم، لا النامي. إذا أدركنا هذا، أدركنا أن هذه أزمة من جملة أزمات مر - ويمر - بها الاقتصاد الرأسمالي الغربي. وهو اقتصاد مهما تراجع أو انكمش، يملك جذوره الليبرالية التي تمنحه الحيوية الإبداعية. وهي جذور يستحيل محوها في لحظة كساد، إذ هي وعي ثقافي كلي، قد تتراجع اقتصادياته، بل وقد تنهار، لكنه قادر على بعث الحياة فيها من جديد. ولعل ما حدث في ألمانيا واليابان أوضح، إذ بعد أن دُمّرتا في الحرب العالمية الثانية، قامتا من جديد؛ لأن الوعي الرأسمالي كان كامناً في أعماق الوعي العام، ولم يندثر هذا الوعي باندثار البنى التحتية، فالثقافة الحيّة تخلق وعياً حياً يستحيل أن يُمحى؛ حتى ولو تحت وقائع الدمار الشامل. صحيح أن تراجع الاقتصاد الأمريكي قد يؤدي إلى ضمور النفوذ الأمريكي، وعدم قدرته على الفعل الحاسم خارج حدود أمريكا. قد يحدث هذا أو شيء من هذا القبيل، فيما لو حدث كساد حاد. لكن، هذا ليس في صالح أي من دول العالم التي تريد أن تعيش في سلام. فأمريكا، رغم كل شيء، ورغم كل الأخطاء، هي في النهاية قوة إيجابية، وضمانة حقيقة للأمن العالمي. وبدونها، قد ينهار نظام الأمن في العالم، فلا تستطيع الدول - باستثناء دولتين أو ثلاث - أن تضمن حدودها، ولا أن تحمي نفسها مما يشبه شريعة الغاب. ما لا يريد أن يعترف به التقليديون والغوغائيون، أن أمريكا هي أقل الامبراطوريات عبر التاريخ إضراراً بالآخرين، وأن أخطاءها - رغم كل ما يقال - أقل بكثير من أخطاء الآخرين. بل إن العائد الإيجابي الأممي للقوة الأمريكية، يفوق كل ما قدمته الامبراطوريات عبر التاريخ البشري كله. وهي حقائق يعرفها الجميع، ومع هذا يحنق عليها الجميع؛ لأن ضريبة النجاح والتفوق، تفرض مثل هذا السلوك، وخاصة من قبل أولئك الفاشلين، الذين لا يملكون إلا جذوة الحسد السلبي، الذي نراه منهم في عبارات الشماتة الجوفاء. إذن، ليس غريباً أن يصيب الهلع العالم أجمع، وأن تسعى حتى الدول المنافسة لأمريكا لإنقاذ الموقف، فهي تعي كونية الاقتصاد العالمي، وما يمثله الاقتصاد الأمريكي في هذا. فأشد الدول منافسة لأمريكا في عالم الاقتصاد، بل وفي عالم السياسة، هي أشد الدول خوفاً من تراجع الاقتصاد الأمريكي. كل هؤلاء يدركون أن الغرب هو العصر، وان قمة الغرب هي أمريكا، وأن ازدهار الحضارة الكونية، رهين بازدهار هذا الغرب. لكن، ما هو غريب حقاً، أن من هو خارج ميدان المنافسة، بل ومن هو خارج سياق العصر، هو المبتهج بهذا التراجع!. هل يتصور هؤلاء أنهم قادرون على أن يحتلوا الموقع الأمريكي في عالم اليوم، وبماذا.. هل بالخطب الرعناء؟!