رغم مضي أكثر من شهر على وفاة فقيد الوطن الأستاذ محمد بن عثمان الركبان - رحمه الله - إلا أن مجالسنا نحن تلاميذه ومحبيه لا زالت تعيش ذكراه الطيبة وتستعيد مناقبه وصفاته الحميدة في تجسيد حقيقي لحكمة الشاعر العربي "والذكر للإنسان عمر ثان". وحيث إنني أحد تلاميذه - رحمه الله - فقد رسخت صورته النقية في قرارة ذهني وانغرست شخصيته الفذة في سويداء قلبي وأصبح في نظري الشخصية المثالية التي يمكن أن يقاس عليها مستوى الرجولة والعطاء والإخلاص. وبما أنني لست صاحب قلم وإنما متابع لأصحاب القلم وقارئ نهم لما يكتب فقد وجدت أن ما كتب عن فقيدنا الغالي يعبر عن المشاعر التي تجيش في نفسي وفي نفوس الجميع تجاه هذا الرجل الفاضل خاصة ما كتبه الأخوة الأعزاء: معالي الدكتور محمد بن أحمد الرشيد والدكتور عبدالمحسن بن عبدالله التويجري والأستاذ جلوي بن عبدالعزيز الجلوي والدكتور عبدالله بن محمد الزيد والأستاذ محمد بن أحمد السليمان والأستاذ منصور بن إبراهيم الدخيل وغيرهم. وحيث إن كل من هؤلاء قد أجاد في التعبير عن مكنون الحب والوفاء تجاه الفقيد كل حسب الزاوية التي عايش من خلالها أبا عبدالله إلا أنني لاحظت أن الأقلام لم تتطرق إلى معلومة ثمينة عن عمل إبداعي قام به في سنين العطاء المبكرة من حياته وقد ظلت هذه المعلومة هاجساً ينتابني وفكرة تطرق جوانب ذهني للخروج حتى وجدت نفسي أمسك القلم لأدعها تنساب على الأسطر لتروي منقبة فريدة لا ينبغي أن تظل تحت طي النسيان وملخصها: أن الأستاذ محمد الركبان قام بتأسيس نادٍ أدبي في المجمعة تحت مسمى (نادي شباب المجمعة) عام 1374ه وتولى بنفسه رئاسته وكانت أهدافه أدبية وثقافية محضة، وأبرز أعضائه شاعر الفصحى العلم الكبير عثمان بن سيار وعبدالله بن محمد الثميري وأحمد الصليبي ومحمد الخيال ومنصور بن عثمان الدخيل وغيرهم. أما فعالياته فكانت مسابقات الشعر والمساجلات الشعرية والمحاضرات الثقافية والمسرحيات والفن التشكيلي والخط العربي والصحافة الحائطية، وكانت جنباته تزدحم بالرواد من مختلف الأعمار، لكن هذا المنبر الرفيع لم يدم طويلاً فقد توقفت نشاطاته بعد سنة من بزوغه بسبب الارتباطات الوظيفية لرئيسه وأعضائه وانتقالهم للعمل خارج المجمعة، وأعتقد أن هذا أول ناد أدبي يقام على مستوى المملكة بأهدافه ومهامه الأدبية الصريحة، وهو سبق رائع بكل تأكيد. وإنني أسوق هذه المعلومة عن هذا العمل الإبداعي الجميل لتضاف إلى المعلومة التي سبق أن ساقها الأستاذ محمد السليمان استدراكاً لما كتب عن الفقيد والتي ذكر فيها أن الأستاذ الركبان - رحمه الله - كان صاحب الريادة في فتح فصل لمحو الأمية عندما كان مديراً لمدرسة الملك عبدالعزيز بالمجمعة في حقبة الستينات الهجرية حيث انتدب لهذه المهمة مجموعة من تلاميذ مدرسته النجباء ومن بينهم الأستاذ السليمان كما ذكر في مقالته. وبلاشك فإن هاتين المبادرتين تدلان على الفكر الإبداعي المتقد الذي كان يتمتع به الأستاذ محمد الركبان وهما غيض من فيض عطاءاته وإبداعاته الفكرية والإدارية طوال مسيرة حياته. وحين أذكر ذلك فهو من باب الوفاء لأستاذنا المبدع "غفر الله له" ومن باب الإشادة برجال الوطن الأوفياء الذين يحملون روحاً متوثبة للعطاء والإبداع والإخلاص والذين لا يرون السعادة إلا في سعادة مجتمعهم ولا يتغنون بإنجازاتهم إلا باسم وطنهم ولا يقدمون العطاء والبذل إلا من أجل تقدمه ورفعته وازدهاره. ختاماً: أكرر أنني لست صاحب قلم وإلا لما تأخرت في تدوين خواطري الحزينة عن فقيدنا العزيز لكن الحرص على تبيان هذه المعلومة التاريخية هيض قلمي لكتابة هذه المقالة التي وإن تأخرت قليلاً عن الركب إلا أنها تتمشى مع المثل "أن تتأخر خيراً من ألا تأتي" وأتمنى من أحد أنجاله أو محبيه أن يتصدى لإصدار مؤلف يحوي سيرته النبيلة ليكون نبراساً مضيئاً للأجيال. هذا وأسأل الله تعالى أن يتغمده بواسع رحمته وأن يجمعنا به وإخواننا المسلمين في جنة الخلد إنه سميعٌ مجيب. @ مدير مكتب وزارة المالية بمحافظة المجمعة أنَّاتُ قلب توالت الأيام وتعاقبت الليالي وتصرم من الزمن عام كامل وما زالت نفسي الجياشة لم تهدأ، ولم تجف دمعتي، ولم تسكن لوعتي منذ فراق والدتي أم عبدالرحمن آل الشيخ - يرحمها الله - وأسكنها فسيح جناته، وما زالت صرخة عالية تختلج في صدري متحسفة على ذلك الزمن الجميل المفعم بالحب، والمشرق بصفاء النفوس وبهائها، فما زالت كلماتها القليلة التي نبست بها في آخر أيامها شاخصة أمام عيني وصداها يتردد من حين إلى آخر على مسامعي فتمر نسمة باردة فتتغلغل بين جوانحي وتبرد شغاف قلبي وسرعان ما ينطق لساني "إنا لله وإنا إليه راجعون" وتجيش ذاكرتي بقول ملتاع: أتى بك الرحمن عضداً لنا وتاجاً على رؤوسنا وضّاء من غير أمي منهل للعطف ومورد ثائر دوماً بلا استجداء فعظيم فضل إنك أمنا وفضل الله يؤتيه من يشاء يا أمنا الغالية إنك ذخرنا وعند الله بمنازل الشهداء. أمي ذكراك نسمات عليلة تشرح الصدور وتهنأ بها القلوب وإني لأتضرع للعلي القدير أن يتغمدك بواسع رحماته، وأن يجمعنا بك في مستقر رحمته فهو أهل ذلك والقادر عليه آمين. ابنتك البارة هياء بنت عبدالعزيز بن سليمان آل الشيخ@ أعياني الشوق أيا أبتِ ؟ في الثاني من رجب لم تعد الدنيا كما عهدناها أنا وأنت يا (ابتِ). "المتوفون أربعة رجال.." قالها الإمام فأشعل في صدري فتيل حزن لن يخبو أبداً، قالها وهم بالصلاة عليك أيها الحبيب ذهبت أدعو لك وأشرق بدمعي، ذهبت أدعو لك ولصغيرتك بالعزاء والسكينة. وما أن انتهينا حملوك على اكتافهم لمثواك الأخير كفارس آن أن يترجل من على صهوة جواده. وأي جواد يا أبتِ؟ أهو جواد الكرم؟ أم جواد العطف؟ أم جواد الصبر الذي كنت رمزاً له في أيام مرضك؟ فوالله كلها خصال سكنتك وما سكنتها. رحلت أيا سويداء قلبي وكنت رمزاً للعطف للقريب والبعيد فبكاك الأطفال والخدم كما بكاك السادة والكبار. حملوك يا أبتِ وما علموا أنك قد توسدت فؤادي - طبت حياً وميتاً يا أبتِ- أهالوا عليك التراب وكان فؤادي هناك. عدت، وفي الطريق ذهبت ارقب الشوارع والأماكن التي زرناها معاً وشهدت صوتك الجميل وأحاديثك العذبة وأبيات الشعر التي كنت ترددها.. فما عادت الدنيا بعدك كما عهدناها أنا وأنت يا أيها الحبيب. عدت طفلة ترقب دلوف قدمي أبيها من الباب.. بقامتك الممشوقة وثغرك عذب المبسم وبياض ثيابك وصفاء سريرتك أرقبه لأسبق الجميع فارتمي بأحضانك. كانت النسوة يدلفن أفواجاً أفواجاً وأنا لسان حالي ينشد ما أنشدته الخنساء في أخيها صخر: قذى بعينيك أم بالعين عوارُ أم ذرفت إذ خلت من أهلها الدار كأن عيني لذاكره إذا خطرت فيضٌ يسيل على الخدين مدرار تبكي (لأبي) هي العبرى وقد ولهت ودونه من جديد الترب أستار لا بد من ميتة في صرفها عبر والدهر في صرفه حولٌ وأطوار يوماً بأوجد مني يوم فارقني (ابتِ) وللدهر إحلاء وإمرار وإن (ابتِ) لتأتم الهداة به كأنه علمٌ في رأسه نار جلدٌ جميل المحيا كاملٌ ورع .. كنت اردد: إلهي أجرني في مصيبتي واخلفني خيراً منها أياً قرة عيني في ذلك المساء زرعت رأسك الحبيبة على صدري ورأيت الأفق قد ضاق وغدت الدنيا كسم الخياط. عزائي صبرك وتوكلك الدائم على الله طوال أيامك الأخيرة. لن أنسى تلك الليلة التي ذهبت أرقيك بها وعندما وصلت: (وعنت الوجوه للحي القيوم) وإذا بدمعة تنسل من جفنك الحبيب سارعت بمسحها بيدك الغالية. غدت أيامي بعدك ما بين نهار أعاند به عبرات تأتي وتروح، وما بين مساء ابلل به دمعي. اضناني الشوق يا أبتِ لرائحتك ولصوتك ولكل تفاصيل حياتنا معاً ما يفرحني ويعينني على فراقك هو استبشارك بالروح والريحان. .. قبيل وفاتك بدقائق ارقب أمي وأختي الصغيرة وعمتي شقيقتك الوحيدة حيث كنّ أغلى ما تراه في هذه الدنيا وأقول: برنا بهم هو آخر سبل الوصال بيننا يا ابتِ. اللهم إنه الحبيب فلك الحمد وإنه الدنيا في عيني فلك الحمد. اللهم اجمعنا به في مستقر رحمتك يا ذا الجلال والإكرام. ابنتك منال بنت عبدالرحمن التويجري