لاشك أن معالي الدكتور عبدالعزيز بن عبدالله الخويطر وزير الدولة وعضو مجلس الوزراء غني عن التعريف لاسيما وأنه رجل دولة يقف كالجبل الشامخ علماً وخلقاً وتواضعاً وأدباً فيقف الشخص له إجلالاً وإكباراً. ولعلنا نتصفح مؤلفه (دمعة حرى)، الذي يعد واحداً من سلسلة من الكتب التي ألفها، وعدد صفحاته (224) صفحة، من الحجم المتوسط. وقد استهل الكتاب بتمهيد ذكر فيه أن الموت مصير كل حي، فهو حقيقة ترى في كل فرد، وفي كل بيت، وفي كل جيل، فلا ينجو منه أحد سواء كان إنساناً أو حيواناً أو طيراً كان أو سمكاً، بل إن الجماد يبلى، وبلاه موت، ولا يبقى إلا وجه ربك ذي الجلال والإكرام!! ويدلف المؤلف في وصف خبر الموت الذي ينزل كالصاعقة على السامع إذا كان عن عزيز غال ويعرف أن المتوفى صحيح الجسم ليس مريضاً، أو في حرب، أو في شيخوخة متقدمة، فإنه يسلي نفسه بالمغالطة، فيشكك في صحة ما سمعه.. الخ. ويوضح الكاتب أن بعض الناس يكتم ويتصبر، ويسلم بإرادة الله، وبعضهم يشل تفكيره، وتتمرد عليه حواسه، فينهار، ويتدفق الحزن من شآبيب الدموع.. فتتجسد أبعاد أعمال الميت في نفس من فقده، فيتصور المكان قد خلي منه والأذن لن تسمع صوته، والعين لن تراه.. فيظل الحزن يطحن النفوس، ويجثم على القلوب، ويوقف حركة الحواس، فلا الأكل أكل، ولا النوم نوم، وصورة الفقيد تعرض نفسها في كل مناسبة.. وتحت عنوان (شنين الدموع) يستعرض كاتبنا ما جمعه من كلمات رثاء في أناس أعزاء على نفسه عل من قرأها يترحم عليهم، فقد توافق دعوته باباً مفتوحاً للقبول، فيكسب الداعي والمدعو له، أجراً ويكسب هو من وراء ذلك ثواباً. وقد قدم نماذج مما جادت به الأذهان في العصور الماضية.. ففيها عبر ومواعظ تدمع لها العين، ويدمى لها القلب، وتتكسر العبرات في الصدور. ومن أدل ما بدأ به ابن عبد ربه ما يشير إلى صدق الحزن ومصدره، ويروى عن الأصمعي، أنه قال: قلت لأعرابي: مال المراثي أشرف أشعاركم؟ قال: لأنا نقولها وقلوبنا محترقة!! وقد أورد المؤلف مجموعة من النماذج وكان من أبرزها موقف رسولنا الكريم عندما توفى ابنه ابراهيم، حيث لم يستطع اخفاء حزنه صلى الله عليه وسلم، وكذلك حزنه عليه السلام على حمزة رضي الله عنه، كما أورد المؤلف نماذج من المواقف المحزنة لعدد من الصحابة والتابعين، وأقوال الحكماء، ونبذاً من المراثي، ومن بين ذلك ما رواه عن قصة ذكرها له معالي وزير التجارة السابق محمد العوضي، قال: إن كنعان الخطيب أديب شاعر، ويتقن اللغة التركية، وأنه مر يوماً بمقبرة في تركيا، فرأى على قائم أحد القبور مكتوباً باللغة التركية بيتين، نقلهما إلى اللغة العربية: لا تقل يوماً أنا هكذا قلت أنا من يقل يوماً أنا صائر مثلي هنا فما أصدقها من بيتين، وما أحسن الترجمة، وما أكثر توفيق المترجم رحمه الله، ورحم قائل البيتين. ويستشهد المؤلف بشعراء رثوا أنفسهم قبل موتهم، ومنهم من رثى أعز من لديه، ولعلي أختار ما أورده الكاتب عن أبي العتاهية، وقد عرف عنه قوله الشعر في الزهد، يرثي ابنه، ويغرف من البحر الذي يعرف السباحة فيه جيداً، فيأتي بالموعظة في أعلى قممها: كفى حزناً بدفنك ثم إني نفضت تراب قبرك من يديا وكانت في حياتك لي عظات فأنت اليوم أوعظ منك حيا ويستعرض المؤلف ما كتبه في رثاء بعض أصدقائه، وزملائه، ومن يعز عليه، وتم نشرها في بعض الصحف السعودية، فها هو يرثي عبدالمجيد شبكشي، ويدلف بعده في رثاء الأديب عزيز ضياء رحمه الله، وقد أثنى عليه ثناء عطراً، وأنه قد وضع مع آخرين من جيله أسس الحركة الأدبية في بلادنا، فكان جريئاً في آرائه.. وكان لعزيز ضياء أسلوبه المميز، الذي تبلور مع الوقت، فأصبح معروفاً به.. ويتناول الدكتور الخويطر رثاءه لمعالي الشيخ حسن بن عبدالله آل الشيخ، وأنه كان رئيساً له، فهو يعرفه من بعيد عندما كان طالباً في المرحلة الابتدائية، واجتماعهما في مدرسة واحدة في الطائف في عام 1360ه. ويصف أفول النجم برحيل الشيخ صالح بن غصون - يرحمه الله -، فلقد كان ضوء بهجة ساطعاً في المجتمع، يهتدي بسيره، ويقتدي بنهجه، ويستفاد من علمه.. لقد كان رحمه الله يمثل جيلاً نذر نفسه لخدمة الناس، والسعي في نفعهم، وإصلاح ذات البين بينهم.. فكان التواضع له سمة، وحسن الخلق له سجية.. وتحت عنوان: (رحمك الله يا معتوق جاوه) استهل الدكتور الخويطر رثاءه له بالدعاء له.. وليس للمؤمن إلا أن يقول (إنا لله وإنا إليه راجعون)، جملة فيها اللجوء إلى الله، والأمل في لطفه وإحسانه، والمنة بالصبر، والمساعدة على التقوى لمقابلة المصيبة، وتحمل وقعها، وأثرها. ويستعرض الكاتب مفاجأة خبر وفاته له.. يقول: لقد عرفته منذ الصغر، عندما كانت القلوب مزرعة للمحبة، والصدور أصص زهور وورود.. وحينما أخبرني أخ قابلته في الطائرة عن وفاته عندما سألته عنه، وقال انه انتقل إلى رحمة الله منذ أشهر، فصدمت بهذا النبأ، وتراكمت طبقات الألم في صدري.. وحول وفاة الشيخ حمد الجاسر يرحمه الله يكتب المؤلف عنه بحرقة، فيقول: وما موته موت واحد، ولكنه موت جيل كد وكدح وأنجز، وضحى وأكثر. فموته شمس علم كسفت، وقمر بحث خسف، وعمود أدب هوى، ومصباح فضل انطفأ.. وسوف يفتقد هذا الرجل المبجل أهله وأبناؤه وأقرباؤه، سوف يفتقده عارفوه وأصدقاؤه، سوف يفتقده من عمل معه أو عنده، سوف يبكيه ناديه والمترددون عليه فيه، سوف يبكيه العالم، والكتاب، والمخطوط والمطبوع. فقد خدم أبومحمد العلوم التي كانت أقرب إلى قلبه، وأولى برعايته، فلم يترك فيها زاوية إلا أطل في خباياها، ولا ميداناً إلا مسح جوانبه، ولا درجاً إلا ارتقاه.. أصبحت خبرته لا حدود لها، عرف مظان العلم.. وعرفه الجغرافيون والمؤرخون، ومحققو الأنساب.. وأكمل ما استطاع في بعض نواقص جوانب ثقافتنا وحياتنا الفكرية.. سوف لا تراه المجامع العلمية بعد اليوم، وكان فارساً في ميادينها، سوف لا تراه النوادي الأدبية والعلمية، وكان من روادها، عندما كانت صحة جسمه تساعده على ذلك، سوف تفقده المجلات والصحف، إذ سوف لا تطل منها مقالاته.. فرحم الله الفقيد وأسكنه فسيح جناته.. ورثى المؤلف في مقال له الأستاذ محمد حلمي رحمه الله، واستعرض بعض ذكرياته معه، فقد كان أستاذه في الخط، وكان هذا الأستاذ محبوباً عند طلابه فقد كان يشجعهم ويحببهم في هذه المادة فيعطي الطلاب المتميزين كراسات للخط مطبوعة زيادة في الجذب، وتسهيلاً للدقة والإتقان.. وقضى الأستاذ محمد حلمي في التعليم أكثر من خمسين عاماً، وكان آخر عمل له خبيراً عاماً، في الدوائر الرسمية، لكشف التزوير، حتى تقاعد عام 1388ه بعد عمل دائب نشط مشرف نبيل. ولعل القليلين يعرفون أنه كتب كتاباً جميلاً حقاً، سماه: (خواطر.. خواطر من ذكريات)، وهذا الكتاب سجل حافل موثق عن الحياة التعليمية والاجتماعية في مكةالمكرمة قبل الحكم السعودي وبعده، ويعد من أهم المصادر لتاريخ التعليم منذ بدء الحكم السعودي.. وفي موضوع وموضع آخر يرثي المؤلف حسن بن عبدالحي قزاز مستهلاً ذلك بقوله: أجل فلتدمع عين الصحافة، وليطرف جفنها، وليخشع قلبها: (إنا لله وإنا إليه راجعون)، وليستلهموا من الله الصبر، وليترحموا على صاحب قلم أنار بمداده صفحات الصحف، وطالما ابتدع الأبواب، وفتح المنافذ على إبداع يسبق به، ليكون للصحافة السعودية نمطها الخاص، وشخصيتها المتميزة، التي تمثلها إسلاماً وعروبة، وتفتحاً على عالم اليوم المتسابق، الراكض خلف مجالات الانجاز والابداع.. ترى كم من الأحياء البارزين في ميدان الصحافة اليوم أوطأ حسن له كتفه ليصعد عليه؟ وكم من مد له يمينه ليسلمه لمجد مؤثل في هذا الميدان؟ له على هؤلاء حق اليوم في أن يقولوا: رحمه الله رحمة واسعة.. ويكتب الدكتور الخويطر في رثائه لصاحب السمو الملكي الأمير فهد بن سلمان بن عبدالعزيز مستهلاً إياه في وصف خبر الوفاة المفاجئ، وأن من يسمع بالخبر يشكك، إلى أن يتضح الأمر.. ثم يستعد العقل لقبول الأمر، ويبدأ انزراع الحزن في القلب بعمق، ويبدأ وزن فقد الغالي، والتعايش مع الواقع، والتسليم بقدر الله.. فلقد كان يرحمه الله أميراً في خلقه، وفي كرمه، وفي أدبه، وفي سماحته، وفي حبه للناس، وفي عطفه على الفقراء، ومد يده للمحتاجين.. والدليل على ما كان يحتله في قلوب الناس تدافع الأمواج من البشر التي جاءت لبيت والده للتعزية به والمشاركة في شعور الحزن والأسى على فقده.. إن مصاب صاحب السمو الملكي الأمير سلمان وأبنائه وأبناء الفقيد وأهله لجلل، ولم يذهب فهد بن سلمان عنهم، فهم يرونه في كل شبر من الأرض وطئته قدمه، وفي كل باب دخل منه، وفي كل سيارة ركبها، وفي كل سجادة صلى عليها.. فإلى رحمة الله أيها الأمير الحبيب.. أما صاحب السمو الملكي الأمير ماجد بن عبدالعزيز يرحمه الله فقد رثاه المؤلف بالدعاء له بالرحمة، ووصفه بأنه كان محبوباً، لما كان يتصف به من خلق كريم، ولما أنعم عليه من مزايا وصفات تجعله يدخل القلب من أول لقاء، وحسن الاستماع، وحسن الحديث، والتواضع الجم، وإشعار من يزوره، أو يتصل به، أنه قريب إلى نفسه، مما يظهره من مودة واحتفاء. كان رحمه الله يجيد الاستماع، ويناقش بهدوء، وكان يعامل الناس معاملة واحدة حسنة، فليس عنده إلا حسن الاستقبال لكل وافد، أيا كان، وقبل أن يصل زائره إلى منتصف مجلسه يكون قد سبقه إلى نصفه محيياً، وإلى نهايته مودعاً.. لقد تركتنا، ولكنك سوف تبقى في سويداء القلب، وما هذه الدموع في مآقينا، والعبرات المتكسرة في صدورنا، والحزن الذي يصهرنا، إلا صدى لما لك في نفوسنا من محبة وإعزاز، ومظهر من مظاهر اتجاهنا إلى الله - سبحانه وتعالى - رافعين الأكف، شاخصي الأبصار، إلى الذي اختارك إلى جواره، أن يكرم مثواك وأن يفسح لك في جناته، إنه جواد كريم، (إنا لله وإنا إليه راجعون). ويرثي معالي الدكتور الخويطر صاحب السمو الملكي الأمير أحمد بن سلمان بن عبدالعزيز فتختلج مقالته بالحزن الكبير والدمع الغزير الذي انتابه عند تلقيه ذلك الخبر المؤلم، فيقول: كلما هممت بكتابة جملة عزاء في صاحب السمو الملكي الأمير أحمد بن سلمان بن عبدالعزيز عصى القلم، لأنه لا يجدها في مستوى الحدث، ولا تفي بحق الفقيد، ولا بما نكنه له ولوالديه وذويه من ولاء ومحبة وتقدير، ولاء اقتضاه الدين والحق، ومحبة فرشوا بساطها لينا ناصعاً، وتقديراً استحقوه من تعاملهم مع جميع من اقترب منهم.. كلما أردت أن ألمس جانباً من جوانب حياته المضيئة وجدت غيري قد سبقني إليه، ووفاه حقه، لأن الأقوال تجاه هذا الحدث صادقة، ونبع من القلوب، وجاء من أناس على صلة وثيقة بالفقيد رحمه الله!!.. وجدت أنه لم يبق لي إلا الدعاء للفقيد بأن يغفر له الله ويرحمه، ويسكنه فسيح جناته، وأن يجعل ما قدمه من بر وخير درجات عليا عند رب كريم.. ويرثي الدكتور الخويطر صديقه الدكتور مصطفى مير مستهلاً بقوله: كان بالأمس بيننا ملء السمع والبصر واليوم استأثر الموت به، فأخذه عنا، وبقي لنا منه إخواناً متحابين، متصافين، جمعتنا عمارة البعثة العربية السعودية في مصر؛ مشيراً إلى تناغمهما مع صديقهما هاشم شقدار يرحمه الله فلم تواجههم أية منغصات، وهم في غرفة واحدة!! ويخاطب الدكتور مصطفى في نهاية رثائه له قائلاً: يا دكتور مصطفى؛ لقد ذهبت إلى جوار رب رحيم، وإننا عليك لمحزونون، ولن ننساك، لن ننسى ابتسامتك، ولن ننسى شعور الحيرة على وجهك عندما لا تجد سبيلاً إلى عون من استعان بك، لن ننسى رزانتك وصمتك، وكلمات الحكمة التي تلقيها بعد صمت طويل.. وفي نهاية كتاب المؤلف الدكتور عبدالعزيز الخويطر كتب حول صيغة الدعاء للميت والحي وأنها كانت بصيغة الماضي، فيقال: رضي الله عنه، ورحمه الله، وعفا عنه، وغفر له، وتجاوز عنه سيئاته، ووفقه، وشفاه، وعافاه، وتقبل منه.. ثم فجأة منذ خمس سنوات، بدأت هذه الصيغ تختفي، وتبعد بمتابعة وإصرار، فبدأنا نسمع: يحفظه الله، ويغفر له.. مؤكداً أنه سأل أوسع علماء الدين علماً، وأعلاهم مقاماً، وأقربهم إلى التقوى وخوف الله، فقالوا: إنه لا بأس بالتعبير القديم: (رحمه الله)..