كان صباحنا يبدأ بالبرنامج الإذاعي الشهير (الأرض الطيبة)، الذي كنا نحفظ مقدمته عن ظهر قلب: احرث وازرع أرض بلادك بكرة تجني الخير لاولادك ونفتح عيوننا على (صوت الأرض) يغني (وردك يا زارع الورد).. وحينما يأتي المساء ونجوم الليل تُنظر نكحّل عيوننا بالحلم.. وتنسكب في آذاننا مواويل (ياليل يا عين) بعد (نشرة الأخبار) على أنغام سمسمية (خَلَفء النجار).. أو (حسن بطيش) مغنّي البغدادية الشهير.. لا أدري - أيامها - ما علاقة (الليل) ب (العين)؟! لماذا (ياليل يا عين).. لماذا لم يقولوا: (ياليل.. يا أنف.. يا أذن.. يا حنجرة)؟! كان ذلك قبل أن نقرأ قصص الحب.. ونتعرف على أشهر مجانينه السيد (قيس بن الملوَّح). وقبل أن نرى الدموع (أربع أربع).. وقبل أن تتقطَّر في آذاننا الصغيرة أغنية (طارق عبدالحكيم) الشهيرة: أبكي على ما جرالي ياهلي قلبي أنا بالمحبَّة مبتلي ولا حصل من يحل المشكلة مع ناعم العود أنا لي مسألة! - مشكلة.. ومسألة.. هِيّا إيش الحكاية؟! سؤال كان يجيب عنه أشهر البكائين (فريد الأطرش): سألني الليل بتسهر ليه!! ما دام قلبك صبح خالي سهرت يا ليل أنادي عليه وأعيش الذكرى على بالي.. كنا جيلاً مسكوناً بالشّجن.. وإذا كان شاعر: (قل للمليحة في الخمار الأسود) هو الذي قاد أول حملة إعلانية (للخمار الأسود) فإن (فريد الأطرش) - بالتأكيد - هو أول من روج (للمناديل)!.. تنام عيوننا على (الحلم).. وتنجرّ عبر منعطفاته وتنتعش (بهفهفاته) كأنها نسائم مروحة الخصف التي حرّكت مراجل غيرة الشاعر فقال: أغار من نسمة الجنوب على محيّاك يا حبيبي لحظات (الحلم) كأنها السنين فكم هو شاق هذا الإبحار على قِصره، وكم هو عميق هذا (الغوص) الذي يذهب بالأنفاس. ذهب غواص (اللؤلؤ).. لم ينجه الإمساك بمنخريه.. ولا تمدُّد رئتيه.. (فالبحر) لا يقبل المنافسة على الظَّفر ولا يسمح (بالنصر) لمخلوقات تعيش بأنفها! في البحر، إمَّا أن تكون لك (خياشيم) وإما أن تأوي إلى جبل يعصمك من الماء!