في ركن من (التاريخ)، وعلى شاطئ (الجغرافيا) الذي تغيرت معالمه، كان (شهريار) يغمر قدميه في البحر.. يتحسس حبات الرمل.. ويصغي لوشوشات فقاقيع الهواء التي تصعد من القاع الى السطح تسترق النظر الى النجوم، فتنطفئ عيونها حياءً وخفراً..! كان شاطئ المدينة المشتعل بالضوء يلملم بقايا الأنفس التي ضاقت صدورها، فانطلقت همهماتها ودمدماتها لتملأ آذان الليل، وتنسكب تحت عيونه.! - يقتلني هذا (الليل) بصمته يا شهرزاد.. وأسأله: "يا ليل خبّرني عن أمر المعاناة".. لكنه يظل واجماً.. أمَّا (البحر) فيضحك.. كأنه يسخر مني.! (مؤدَّب) هذا الليل.. وصاخب وعابث هذا (البحر) يا شهرزاد..! ربما لا تهمه معاناة الأحياء! في طفولتي، كنت أحلم بأنني أطير بجناحين، أعبر القارات، فتتلوّن تحت جناحيّ، وكأنها تلوّح لي.. حتى إذا ما دنوتُ منها تلاشت الألوان وتحولت (الصورة) إلى (أبيض وأسود).! ربما أنَّنا نحن الذين نمنح الحياة اللون.. والطعم.. والرائحة.! - فهل يروعك كرّ السنين يا سيدي؟! - لا.. لا ياشهرزاد.. إن لكل مرحلة من العمر لوناً.. وطعماً.. ورائحة.. صدقيني.. إنني أستطعم الحياة - اليوم - بذائقة (مكتملة النمو).. وبحواس تتجاوز الخمس والسّت بكسورها (الاعتياية) و(العشرية)! ولو خيِّرت في العودة إلى (الوراء) لما اخترت.! - ربّما لأنك تدرك استحالة ذلك.! - بل لأنني لا أقايض بذائقتي عن (حفنة).. من السنين (الكبيسة) أو البسيطة.! واسكتي الآن يا شهرزاد، ولا تقلّبي عليّ المواجع.. - مثلك لا تليق به المواجع. - كيف لا.. وأنا أقف على هذا الكوكب الساخن.. المتوقد بحب الشيء ونقيضه.. وبالرغبة (في الشيء) والرغبة (عنه)؟! - ترغب (في) الشيء.. وترغب (عنه) يا سيدي؟! - انتظر طلوع النهار.. حتى إذا ما بدا لي من الأحياء ما أكره استعجلت (الليل)، ليحجب عن عينيّ هذه التماثيل فلا أراها.! ثم.. يجيء الليل ثانية فأستوحش.. وأعاني.. - من أي شيء تعاني يا سيدي؟! - "أعاني الساعة وأعاني مسافات وأعاني رياح الزمان العتيه وأصور معاناتي حروف وابيات يلقا بها راعي الولع جاذبية".! - جاذبية (اسحق نيوتن)؟! - بل جاذبية الأرواح التي تتوافق فتأتلف، وتقلب (قانون) السيد (اسحق نيوتن) رأساً على عقب.! - أنت مكتئب لأنك لم تعد ترى الشمس كثيراً يا سيدي.! - لا.. فما عدت أعبأ بالشمس.. "من أمس.. عيَّت تغيب الشمس.. وعيَّا يجينا الليل.. الليل أبو الأسرار"! - أظنك تقلب (الصورة) رأساً على عقب! - بل أنظر إليها بطريقتي الخاصة.. فأراها ك (كتلة) و(ظل) و(نور).. فما عادت تهمني تفاصيلها.. (كل التفاصيل وهم)!. - فهل تفتقد نجوم الليل أم شمس النهار؟.. - لا.. فما عدت أرقب النجوم.. ولا يهمني متى تطلعُ الشمس!.. ما فات قدَّرت (سلفاً) أنه فائت.. "ولأني بندمانٍ على كل مافات أخدت من حلو الزمان ورديَّه هاذي حياتي عشتها كيف ما جات آخذ من أيامي وأرد العطيه"..!