مازال التراث العربي معيناً لا ينضب ومصدراً ثرياً لعشاق العربية فمنه ينتح المحققون كنوز العربية التي مازالت متوهجة بنور المعرفة وروعة آدابها وجمال مضمونها. وقد اخرجت قبل اسابيع دار المنهاج للنشر والتوزيع بجدة كتاباً جديداً في مادته وجودته واخراجه حمل عنوان "شرح لامية ابن الوردي.. المسمى فتح الرحيم الرحمن.. شرح نصيحة الإخوان ومرشدة الخلان" تأليف العالم الأديب الشريف مسعود القناوي الحسيني الشافعي وقد عني به وبجمعه عبدالقادر مكري الذي يذكر ان هذه "اللامية" الحكمية تنفث بالسحر الحلال وتتجلى فيها براعة هذا الإمام، فكان لها حلاوة متميزة، وبهاء أخاذ، وحسن سبك فالتقى سمو الأسلوب وعلو المضمون، فذاعت وذاعت وشرقت وغربت، لقوة وقعها في القلوب، ويضيف المحقق ان ابن الوردي املى صادق الكلم وأتى بجوامع الحكم ووعظ فيها وذكّر ورغّب في معالي الأمور، ومن سفاسفها حذر، فكانت هذه المنظومة تحفة سنية وجوهرة يتيمة، فلهذا ألبست من محاسن الأدب حللا ومن تجيان الفضائل محاسن. وقد وقف عند هذه (اللامية) الشريف القناوي فاستخلص يتيمها وأخرج كنوزها وطرزها بالمعاني الجميلة وحلاها بالعقيان والجواهر ووشحها بكل أثر شريف فجاء الشرح مشابهاً للمسمى. وقد عرف عن الأقدمين عشقهم بحفظ الأشعار التي تدلهم الى مراقي السلوك وكريم الأخلاق. هذا وقد استقرأ المحقق احاديث الشرح وخرّجها وتتبع الآثار وردّها لمصادرها كما وثق النصوص وقوم ما افسدته يد النساخ وأبحر في قوافيه، وميز بين قوادمه وخوافيه، حتى خرج بهذه الحلة القشيبة. وكانت "اللامية" محط نظر الشراح والشعراء لما جاءت به من غزارة المعاني ومصقولة المباني وبهاء أخاذ ينبئ عن بديع النظم، ومن اشهر شراحها في السابق عبدالوهاب الغمري وأبو المكارم العزي وياسين الحمصي ومحمد الدمشقي وخليل الدمشقي وعطاءالله الأزهري ويحيى المكي ومحمد الدمنهوري وحكمت الطربلسي اما الشعراء المخمسون لها والمشطرون فهم يوسف المغربي وعبدالرحمن الملاح ومحمد الكفيري ومحمد أفندي وعلي الصيرفي وسالم نجم وأحمد العاني. من هو ابن الوردي ويقف المحقق ليترجم للقارئ صاحب "اللامية" فيقول عنه: إنه العالم والأديب والقاضي والنحوي زين الدين أبو حفص عمر المظفر بن عمر بن ابي الفوارس الشهير بابن الوردي ينتهي نسبه الى سيدنا ابي بكر الصديق رضي الله عنه. وقد خاض ابن الوردي في كل العلوم والفنون وأجاد وأبدع وأخذ عن العلماء صدر الدين العثماني وفخر الدين الطائي وشهاب الدين الحنبلي وتقي الدين ابن تيمية وولي قضاء منبج بالشام وقد اخذ عنه جماعة من اهل العلم ومن هؤلاء التلاميذ: ابراهيم الحلبوني وشرف الدين المعري وبدر الدين الحلبي ومحيي الدين الدمشقي وشمس الدين العبدلي. هذا ومن ابرز مصنفاته التي تنوعت في العلوم والآداب فجاءت الكتب التالية: 1- "ابكار الافكار في مشكل الأخبار" في الشعر والأدب. 2- "بهجة الحاوي" في الفقه. 3- تتمة المختصر في اخبار البشر" في التاريخ. 4- "تذكرة الغريب" في النحو. 5- "خريدة العجايب وفريدة الغرائب" في البلدان والمعادن. 6- "الرسائل المهذبة في المسائل الملقبة" في الفرائض. 7- "رسالة السيف والقلم" في الأدب. 8- "الشهاب الثاقب" في التصوف. 9- "ديوان شعر". وقد توفي ابن الوردي أيام طاعون حلب عام 749ه دور المحقق ومنهجه: قام المحقق على هذا التحقيق من خلال ثلاث نسخ خطية كاملة ومطبوع، اما النسخة الأولى فكانت بالمكتبة الأزهرية ذات الرقم (34170) وعدد اوراقها (191) ورقة، في حين جاءت النسخة الثالثة مصورة لدى مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الاسلامية وعدد اوراقها (93) ورقة، كما تابع المحقق النسخة المطبوعة التي تقع في (176) صفحة والتي طبعت عام (1310) ه بمصر. بعد ذلك عارض المحقق المطبوع على النسخ الخطية وأثبت الفروق المهمة وحصر الآيات القرآنية بين قوسين مزهرين {} وأثبتها برسم المصحف على رواية حفص بن عاصم، كما خرَّج معظم الأحاديث الشريفة والآثار وأثبت علامات الترقيم وخرج معظم الأبيات الشعرية وشرح الكلمات الغامضة وعلق على بعض المواضع في الكتاب وأضاف بين معقوفين () مالا تستقيم العبارة الا به، وخرج معظم النصوص التي نقلها الشارح عن العلماء وجعل أبيات "اللامية" ضمن اطار مرقمة بأرقام متسلسلة وعنون الفوائد والتتمات والتنبيهات. ولعمري ان هذا لجهد كبير وعمل شائق لا يرقى الوصول اليه الا اولي الهمة من العلماء الذين عشقوا المتون واستطابت لهم الحياة مع صعوبة التحقيق واشكالاته.