في "التقرير الشعري" الأخير لنزار قباني الذي يضمه ديوانه الجديد الأخير الصادر حديثاً في بيروت تحت عنوان "أبجدية الياسمين"، يعثر القارئ على نزار قباني كله: على قصيدته الغزلية المعروفة التي يؤلف "النهد" معلماً بارزاً من معالمها. على تلك النرجسية الفاقعة التي ترد حيناً على لسان الشاعر، وحينا آخر على لسان صديقة او حبيبة تمنحه من الصفات ما يتوق هو توقاً شديداً اليها: "يارجل الرجال/ يا أيقونة في عنقي علقتها/ ياقهوة العشق التي من يوم أن ولدت قد أدمنتها/ يا أحرفاً من فضة كنت على دشداشتي السوداء قد طرزتها/ ياوردة جورية في بؤبؤ العينين قد زرعتها.. يا رجلا مميزاً.. ياسيدي المحفور في جلدي، وفي ذاكرتي.. من اجل ان تبقى معي/ أصابعي الخمس أنا اشعلتها من اجل ان تكون لي/ كتبت آلاف المكاتيب وما أرسلتها". وكثيرا ما ترد هذه النرجسية على لسان الشاعر نفسه: "لقد كانت ذبحة القلب التي اصابتني - على خطورتها - حدثا رائعا جميلا، لأنها أرتني قبل أن أموت أبعاد مجدي" او: "لقد كنت اول شاعر عربي يمسك مجده بأصابعه وهو على قيد الحياة، ويرى حفلة عرسه بواسطة البث المباشر لا بواسطة شريط فيديو". ولكن مظاهر الضعف التي آل اليها حال الجسد والتي انعكست على حال الشعر لا تخفى في هذا التقرير: - الشعر غادرني.. والحب غادرني فلا قمر ولا وتر ولا ظلٌ ظليل.. - لم يبق في الميدان فرسان ولا بقيت خيول والجنس صعب والوصول الى كنوزك مستحيل والموج يرفعني ويرميني كثور هائجٍ ماذا سيبقى من حصان الحب لو مات الصهيل؟ في مثل الظروف المأساوية المرة التي صادفها الشاعر على فراش مرضه الذي انتهى بوفاته، كان لابد ان يرى الشاعر ما آل اليه وضعه وان يعترف ما أمكنه الاعتراف: - لم يبقى شيء في يدي كل البطولات انتهت والعنتريات انتهت.. لا ياسمين الشام يعرفني ولا الأنهار والصفصاف والأهداب والخد الأسيل وانا احدّق في الفراغ وفي يديك وفي احاسيسي فيغمرني الذهول وهو يقول في هذه القصيدة انه "محبط، ومشتت، ومبعثر". وفي (القصيدة الأخيرة بدون عنوان) وهي على الارجح آخر ما كتبه، ان "ورد الهوى قد جف". الا انه سرعان ما يغادر هذا الإيقاع ليقول إن فيه شيئا من عزة المتنبي، وبقايا من نار مجنون عامر.. الا ان القصيدة بمجملها قصيدة مفككة غير متوازنة أجهد الشاعر نفسه لكي يصل الى بيتها الأخير. وكل بيت من ابياتها مستقل وقد لا يوجد أية صلة بينه وبين البيت او الابيات السابقة. او لنقل ان هذه القصيدة جاءت بمثابة وقفة وداع. ففيها يوجه الشكر والحب للنساء اللواتي ألهمنه على مدار حياته: للمليحات كل حبي وشكري فلقد كنّ في حياتي الازاهر ان فضل النساء فضل عظيم فأنا دونهن طفل قاصر قد يقول قائل إنه كان بإمكان الشاعر ان يعبر عن شكره للمليحات نثراً، فلا يجهد نفسه وراء الوزن والقافية، خاصة وان ما ورد في ابياته هذه (وفي القصيدة بأكملها) عبارة عن نظم لا عن شعر. كل هذا صحيح، ولكننا اوردنا كل هذه النصوص للإشارة الى المناخات النفسية التي عاش فيها الشاعر الكبير في اشهره او ايامه الأخيرة، لقد كان مريضاً مرضاً شديداً. بل كان فيما يسميه الفقهاء "مرض الموت"، أي المرض الذي لابد إلا أن ينتهي بموت صاحبه. فهل كان لهذا الموت حضوره أو تأثيره في قصائد نزار قباني الأخيرة؟ إن قارئ "التقرير الشعري" الأخير لنزار، أي مجموعته "أبجدية الياسمين" سيذهل لا لغياب قصيدة الموت في هذا التقرير، بل لغياب الموت نفسه، أو أية عبارة تفيد أن الشاعر كان يواجه قدره، وأنه كان يستعد للقاء عالم آخر، بعد حين قريب. وسيذهل هذا القارئ أكثر عندما يجد الشاعر مستمراً في غزله المعروف بالنساء. كان الشاعر عندما كتب هذه النصوص في الخامسة والسبعين من عمره، وكان لا يغادر المستشفى إلا ليعود إليه. فهو إذن في وضع نفسي وروحي وجسدي في غاية الحرج والدقة والصعوبة. وفي مثل هذا الوضع كان من حقه أن يتجاوز قصيدته القديمة، المعروفة، إلى قصيدة أخرى مختلفة فيها حديث عن الروح، أو للروح، وعن الله، أو لله، طالما انه على قاب قوسين أو أدنى من العالم الروحاني الأعلى. ولكن القارئ يقرأ "أبجدية الياسمين" صفحة صفحة، وسطراً سطراً، فلا يجد أمامه سوى نزار السابق المعروف جيداً لديه: نزار المتغزل بهن غزلاً إباحياً أو شبه إباحي. نزار متأسف على حالته الجسدية والمرضية الحالية وان الوصول إلى كنوز الحبيبة (أو المرأة إذ لا حبيبة) مستحيل. وهذا أمر غريب بالفعل. فكأن الشاعر، من البداية، بَرمَج نفسه على قصيدة واحدة لاغير، دأب طيلة حياته على التنويع عليها، حتى بعد أن تجاوز السبعين. وهذا ما لا وجود له في سيرة الشعراء والمبدعين عامة، إذ ان هؤلاء يكتبون عادة مواجدهم وأحاسيسهم والظروف المستجدة التي تصادفهم. ومن الطبيعي أن تكون قصيدة الغزل هي قصيدة الصبا، وان يكون لخريف العمر قصيدته التي تعبّر عنه! إلا نزاراً الذي كأنه خضع، أو أخضع نفسه قسراً، لقصيدة واحدة دأب ينوّع عليها على مدى أكثر من نصف قرن لا يغادرها ابداً، مع أنه كان جديراً به أن يلتفت إلى العالم الآخر، على الأقل كما التفت أبونواس في قصائد وأبيات، ليطلب من الله أن يرحمه وأن يغفر له ذنوبه انطلاقاً من "جميل عفوه" ثم "إنه مسلم" كما يقول في بيتين مشهورين له. أما نزار فلا وجود على الإطلاق في "التقرير الشعري" الأخير الذي كتبه لا للموت، ولا لقصيدة الموت، ولا للعالم الآخر على الإطلاق.