هي مقالة مضمخة بالحب لم يدر بخلد كاتبها ان تنتهي بمهرجان من الوفاء، حملت المقالة الصدق والعفوية وعذوبة الكلمات وانتهى هذا الفصل بعقد صفقة من الحب بينهما استمرت إلى ان رحل احدهما الى الدار الآخرة فبقي الآخر يحاول ان يطفئ حزنه ويبر بهذه العلاقة الجميلة فاخرج كتاباً محضه سيل من الحب انهمر بين ثنايا الكتاب. هذه قصة كتاب "نزار قباني.. آخر سيوف الأمويين الذهبية" للكاتب الكبير الأستاذ عبدالله الجفري. اذاً فالكتاب كان موضوعه رؤية انسانية عن شاعر العصر نزار قباني الذي استوقف بقصائده أفئدة الملايين على مدى خمسين عاماً، اما الكاتب فهو من القلائل الذين انصاع لهم البيان سلساً عذباً متدفقاً عبر ما تقدمه انامله الماهرة في صناعة النص الأدبي، ذلك لكونه يتعامل مع الكلمة تعامل الصائغ البارع ليخرج احدى نفائسه، هذا هو عبدالله الجفري الذي يأبى الا ان يكون حاضراً في اي كرنفال للحب ليكون شمعة تضيء شعاع الوفاء وسوسنة تذكي فضاء الآخرين بأريجها الفواح. ثقافة الخميس مشاركة الجفري هذا الوفاء وهذا النبل واستمعت اليه وهو ينهمر حباً وذكرى عن الشاعر/ العصر نزار قباني. @ على الرغم من تنوع الأسماء الشعرية في عالمنا العربي، تأبى ذائقة "أبي وجدي" الا ان تختار الشاعر الكبير نزار قباني.. ما مرد هذا الاختيار الذي اراه - في نظري - موفقاً؟! - كنت دائم الترحال وراء قصائد نزار ومعها، فقد كان "كمنارة البحر" - حسب وصفه، وأعجبني فيه انه كان دائماً: "يرفض ان يكون شاعراً سرياً، يكتب قصائده بالشفرة او بالحبر السري"!! وزدت التصاقا بشعره بعد ان خرج من مخدع المرأة الذي ظن الكثير من نقاده انه لن يخرج منه، ودخل مخدع السياسة وهموم وطنه العربي.. فلما كتبت مرة عنه في عمودي الذي كان على الصفحة الأخيرة من صحيفة (الحياة) قبل اقلمتها: فوجئت برسالة دافئة منه، رددت عليها فوراً.. فأسعدني انه استمر يواصلني برسائله، حتى اسقطه المرض على مستشفى سرير العناية المركزة، وهرعت الى زيارته وهو يفوق من اغماءته، وتعمقت بيننا وشيجة الصداقة، وفرحت ان هذا الكبير الجميل كان يتابعني في كل ما اكتب، ودلت رسائله الي.. فكان لابد ان اسجل في (كتاب) ملامح وأبعاد وعمق هذه الصداقة القصيرة.. كأني - بهذا الكتاب - كنت الدمعة الأولى من عيون محبي وعشاق شعره على مرضه ثم على رحيله.. وكأن هذه الدمعة التي تشكل منها كتابي عن نزار: تمثل ساقية العشق، وذاكرة العصر الذي شكله نزار بشعره. @ انت احد الذين حفل بهم الشاعر الكبير نزار قباني، فكانت تسكنه مقالاتك، ويرويه صوتك، وينتشي لمقدمك.. ترى ما اسباب هذه الحميمية بين شاعر وناثر، كان لكل منهما صداه الكبير في عالمنا العربي؟! - لابد ان تجد هذه الحميمية في كلمات رسائله التي كان يودعها "فاكسي"، وقد نثرها على سياج قراءاتي: باقات ياسمين مازالت تضمخ كلماتي.. فيكفيني انه منحني هذه الخصوصية في احدى رسائله الي، قائلا: - "ما تختاره انت للنشر، اختاره انا.. فبيني وبينك ميثاق حب وشعر اهم من ميثاق الأممالمتحدة، وشريعة حقوق الإنسان، وملفات جامعة الدول العربية". - وقد بذر السعادة في نفسي يوم كتب لي: "كم انا سعيد بولادتي الثانية على يديك.. وكم انا سعيد ان تكون طبيبي، وشاهدي، وعرابي.. وكم انا سعيد ان اترعرع على حليب حنانك - الكامل الدسم"! فمن الذي منحه "نزار" هذه الخصوصية في الصداقة، ووحدة الروح؟! اما اسباب هذه الحميمية بين شاعر وناثر، فأحسب انها تكمن في توحد المعاني التي تتبلور صوتاً يتفوق على الصدى.. فما وراء الشعر هو قدرة الإبداع على الخلق الفني، وما وراء النثر هو الاحتفال بالعلاقة بين الكاتب وواقعه، والكاتب وإذكاء وجدانه.. وتجمعنا معاً هذه التساؤلات التي تلزمنا بالوقوف امامها لاجتلاء اجوبتها وأبعادها! @ وأنت من القلائل الذين علق بهم نزار: قلماً وإنساناً.. كيف رأيت نزاراً من الداخل.. نزار الإنسان.. نزار المواطن العربي.. نزار الذي يعيش على الحب.. قلي بالله عليك كيف وجدته؟! - نزار الإنسان: كان صديق الوردة في زمن يتباهى الناس بقطف الورود، بل ودعسها، وفي زمن تسحق الدبابات الحقول وتقلع اشجارها. ونزار المواطن العربي: يكفيه انه صور عمق ألمه، يوم كتب: - انا يا صديقة متعب بعروبتي فهل العروبة: لعنة وعقاب؟ امشي على ورق الخريطة خائفاً فعلى الخريطة.. كلنا اغراب!! ونزار الذي يعيش على الحب: مارس عشقه حتى الجنون، متفوقاً على "عمر بن ابي ربيعة".. فكانت القصيدة عنده: امرأة، والمرأة: قصيدة ووطن! @ حفل كتابك: "نزار قباني.. آخر سيوف الأمويين الذهبية" بأكثر من مقدمة، شاركت المؤلف حب الشاعر.. بماذا تفسر هذا المهرجان من الحب والوفاء؟! - ان المحتفى به في الكتاب: شاعر شكل عصراً يعنون باسمه، ولم تكن عدة مقدمات، ولكن افتتاح الكتاب: حرصت ان يتوجه بكلماته وقلمه الناقد العربي الكبير د. محمد يوسف نجم، وهو من اعز اصدقاء الشاعر، وحرصت ان استضيف: نشيد د. فؤاد عزب عن صديقه، وقد تعارفنا مع الشاعر في فترة تكاد تكون واحدة، ولأن "فؤاد عزب" لا يقل عشقاً عني لنزار.. وكان لابد ان اوحد بين كتابي وكتاب صديقي العزيز عرفان نظام الدين الذي سبقني الى الكتابة عنه، وهو من اصطحبني في لندن الى زيارة الشاعر في المستشفى ثم في بيته.. فكانت هذه الكلمات التي اعتبرتها (مقدمات) ترسيخ لمكانة الشاعر وتعبير عن توحدي مع هؤلاء الذين احبوه. @ من "طفولة نهد" الى "تنويعات نزارية على مقام العشق".. كيف تنظر الى هذا الثراء الشعري الذي شارك في تنميق صورة الشعر العربي الحديث؟! - لقد اطلقت على نزار قباني صفة: (الشاعر - العصر)، فهو الذي ابتدأ عصراً نزارياً، وبموته: انطوى هذا العصر الجميل الذي تشكل مدرسة شعرية فريدة.. وبهذه (الشعرية) في قصائد نزار: جسد حب الجمال، وحب الوطن، وحب المبادئ، وحب الحق.. وهذا (الحب) كان هو لغة نزار قباني الشاعرية التي تفوقت على اضادها ومناوئيها. @ لماذا تتحول كلمات بعض النقاد الى خناجر مسمومة تريق تجربة نزار الشعرية، وهو الذي يغرد للعصافير، ويسقي الياسمين من نشيده الشعري.. لماذا هذا الغل من اقلام الصبار؟! - بكل اسف.. افتقدنا في عصرنا الرمادي هذا: الناقد الموضوعي الذي يرتكز على دراسة ادبية فنية، وصار اكثر النقاد - يدعون النقد، ويرتبطون "بشللية" مقيتة، فلدينا اليوم: نقاد الحداثة، والكثير منهم ينظر الى المنتج الأدبي بنظرة (الشلة)، فإذا لم يكن: حداثياً، وان لم يكن يطبل ويزمر للناقد، فهو من الكتاب المهمشين الذين يكتبون كلاماً فارغاً! إنهم هؤلاء الذين يمارسون: (الترشيح الفسيولوجي فينتهون به الى: قتل العطر والوردة، وكأن الثقافة لا تحتمل الكلام المرسل الرائق والجميل) كما قال الكاتب المتوهج الأستاذ نجيب الزامل!! وهذا الميل الخاص: كان سبباً مباشراً في غياب النقاد الموضوعيين، وبالتالي: افتقد الكتاب الطليعة من الشباب الى من يضع كتاباتهم تحت مجهر النقد الموضوعي، فلو كان يكتب بطريقة الحداثة: رفعوه ونفخوه وجعلوا منه الأروع! وهكذا يسقط النقد المعاصر في هذه اللغة القاسية، الفقيرة الى الحيادية والموضوعية، تتعرى شخصانياً ولا يهمها العمل اذا جاء من غير الشلة، وتدخل في هذه المشاعر السوداء: شهوة الانتقام من الناجحين، وهو الانتقام الذي يخلف في صدر وعقل صاحبه احتقار حزن من شتمه الناقد على تفشي مثل هذه العقول والنفوس! @ عاش الشاعر نزار قباني سنوات طويلة بعيداً عن خيمتنا العربية، على الرغم من ولهه بها وعشقه لها، وغنى لها في غربته صباح مساء وضع لها مع كل قصيدة قوس قزح.. فلماذا يموت هذا الشاعر العصر بعيداً عن خيمته، وعن ليلى، وعن الخزامى والشيح وطائر القطا.. يموت هناك في بلاد الفرنجة؟! - اجيبك بفقرة من رسالة كتبها اليَّ الجميل نزار، تتضمن ابلغ رد على سؤالك، فقال فيها: - "اما قبيلتي فلا ازال احبها، وأحن الى عيون عفراء، وكحل عفراء، وخلاخيل الفضة في قدميها، ولكن.. ماذا افعل اذا كان ابو عفراء لا يحبني ولا يحب شعري، ولا يريدني صهراً له؟! ماذا افعل اذا كان اعمامي وأخوالي: طردوني من خيامهم حتى اضطررت الى نصب خيمتي في حديقة (هايدبارك) في لندن؟! ماذا افعل اذا كان عمي (ابو عفراء) يرفض تغزلي بابنته، ويحرض كلاب الحي على عضي، ويصرخ بي كلما اقتربت من باب خيمته: (امض قيس.. امض/ هل ترى جئت تطلب ناراً، أم ترى جئت تشعل البيت ناراً"؟!! @ يعج عالمنا العربي بالأصوات الشعرية، متعددة الجودة والرداءة، حتى اضحى لكل مواطن عربي: شاعر!! الا تجد منهم شاعراً يحمل راية نزار، وصوت نزار، وجرأة نزار، وقلب نزار؟! - لا يمكن ان نغمط حق وإبداع اسماء فرضت ابداعها الشعري على الساحة في ارجاء الوطن العربي، وعلى رأسهم - في تقييمي - الشاعر المصري، فاروق جويده، ولدينا: الشاعر الكبير، غازي القصيبي، والشاعر الرائد، محمد الفهد العيسى، وشاعر الصهيل الحزين، عبدالعزيز خوجه! والتقييم يخضع لمن يتوغل في اعماق القارئ العربي، ولمن يشاركه معاناته وهمومه.. فأين الشاعر الذي يقف على حفافي روحه و.. يعترف؟! @ هب - يا ابا وجدي - ان ابا هدباء بيننا اليوم في عالم الجرح العربي، وعصر الانكسارات العربية.. فيفجع من هولاكو وجحافله وهم يقضمون اعذاق نخيل العراق ويرتشفون من فراته، ويصنعون من كرومه نخب انتصارهم.. ماذا سيكون حاله؟! - سيواصل صراخه ضد الطغاة والاستعماريين والقتلة، ولكنه سيموت مكرراً وبأسرع ما يمكن، فإن الذي تحمله في حياته كان كافياً ليسقط - فجاة - في اغماءة طويلة، ثم يفيق منها لشهور سريعة، ما يلبث بعدها ان يموت! - كتب لي ذات يوم يقول: "اطالبك ان تبدأ في سداد فاتورة الزمان بدلاً عني، فأنت وأنا: زهرتا حب قطفتا ووضعتا على قبر قصة عشق احتضرت في موت العالم اليوم بالحقد، وبالأطماع، وبالحروب.. دعني - اذن - اسميك (المجنون)، لعلك تنجو من عقل عالم اليوم"!! وهو الذي قال شعراً: - "وإذا قسوت على العروبة مرة فلقد تضيق بكحلها: الأهداب"! هذا هو "نزار" الذي كتبت عنه اقول: إنه شاعر الدهشة والجنون الحزين، يعايش زحام عصره، ورخام بشره!!. حديث نشر بمناسبة توقيع كتابه عن نزار قباني