كان واقفاً في الطريق، موهناً، يبحث عن سيارة تقله - كان في شبابه ربما أطاح بالجمل، وسبق الجواد - ظل واقفاً ولا أحد يلتفت إليه، إلا غبار السيارات التي تمر مسرعة، فيلوح بيده وعصاه، لعل أحداً يشفق عليه، فيحمله معه.. ولكن لا أحد.. لا أحد.. فيعود يطوي جسده المنهك، ويقعد تحت الجدار المتداعي، وقد اتكأ على عصاه، وقبضها بكلتا يديه من وسطها وقد أرخى رأسه إلى الأرض.. آه لو تعلم الأرض من هو.. يا لها من دنيا وياله من فارس أزرى به النسيان والوحدة، والعقوق: * * * - سيدي الشيخ ليس هذا زمنك.. زمنك رحل مع رفيق الطيور التي هاجرت إلى مروج الأبد.. زمنك سافر مع صهيل الخيل، وتنادب الفرسان في فجاج هذه الأرض التي اتسخت بغبار السموم، والهموم.. زمنك سافر مع النقاء، والشجاعة، والنبل والرجولة.. زمنك رحل مع غناء «النشامى» في حقول الشمس، وبيادر القمر.. لم يبق هنا إلا جثث تنوء بالاتخام، والتفسخ، ورائحة النذالة والجبن.. - سيدي الشيخ ها أنا أقبّل رأسك، وما بين عينيك، أشم فيك رائحة أبي... رائحة نخلنا، رائحة بيتنا، رائحة قهوتنا، رائحة الشهامة في هذا الزمن الشحيح.. أرى في وجهك قمرنا الذي كان ينشر ضوءه على وادينا، على نخلنا، على رملنا، وماء بركنا، نظل نسامره، ويسامرنا، وكأن الكون قسمة بيننا، وكأن الفرح قسمة بيننا.. اليوم شاخ القمر كما شخت، وشاخ النخل وشاخ الحب، وشاخ الجمال.. - أيها الشيخ أنت البقية الباقية من ذلك الزمن الصالح.. وذلك الزمن البهي الجميل.. ها أنا أتشبث بك.. بصوتك، بظلك، وكأنك الشجرة الخضراء في صحراء الشح، والإجداب، والعبوس.. كأنك ماء الوشل في أودية العطش.. كأنك الوتر الباقي في قيثارة الخلود... - سيدي الشيخ أراك فأشجى أحس أنك بقية المنقرضين، أحس بأفولك كآخر كوكب يهدي السراة في وجيف الليل.. فما عاد هناك سراة، ولا كواكب ولا نجوم.. صار كل شيء يسري مظلماً في مكانه، وضائعاً في مكانه.. - سيدي الشيخ لا تؤاخذني إذا كانت كلماتي لها طعم ماء الحنظل، ولصوتي صوت تكسير الحطب.. لأن كثيراً من أخلاقنا صارت هشيماً ولها مرارة الحنظل.. ولولا ذلك لما تركناك تحمل شقاك وحيداً وكأنك من عناه أعمى اليمن بقوله: وحده يحمل الشقا والسنينا لا مُعين وأين يلقى المعينا متعبٌ يعبر الطريقض ويمضي وحده.. يتبع الخيالَ الحزينا