الحديث عن نَفَس المخرج ورؤيته المتفردة وتحديده لإيقاع الفيلم الواحد ليسير وفقاً لنوتة فنية متصاعدة، تماماً كما يعمل المايسترو في الاوركسترا الموسيقية الضخمة، كل ذلك يبدو غير ذي مناسبة في موضوع هذا التقرير الذي يدور حول فيلم سينمائي جديد مكوّن من أجزاء قصيرة متعددة يتولى إخراج كل جزء منها مخرج مستقل، وتلتقي جميع هذه الأجزاء الصغيرة في كونها تتناول ثيمة سينمائية موحدة هي "نيويورك، أنا أحبك". وقبل الحديث عن الفيلم المعلن عرضه هذا العام، تجدر الإشارة إلى أنه قبل عامين من الآن، استضاف مهرجان كان السينمائي عرض فيلم "باريس، أنا أحبك" والذي تولى صنعه عبر مقاطع فيلمية قصيرة أكثر من 20مخرجاً من جميع أنحاء العالم يعبرون خلال لوحات بصرية سينمائية عن حبهم لباريس كما يرونها. ما ميّز فيلم "باريس، أنا أحبك" هو تلك الزوايا المتعددة التي قدم بها كل مخرج رؤيته لباريس. ففي الحين الذي تشاهد في أحد الأفلام القصيرة "باريس" مدينة النور، ينقلك الفيلم الذي يليه إلى "باريس" مترو الأنفاق! في مغايرة شاعرية وتعددية جميلة لرؤى المبدعين لذات المكان. كما إنه -أي الفيلم- تخلص باقتدار من الصورة الذهنية القوية لباريس لدى المتلقي. فهو يقدم باريس بذاتية المبدع التي قد تصل إلى حد اختزالها كاملة في شارع أو رصيف أو حتى نافذة منزل. وهذا النوع من الذاتية بين المبدع والمكان أو الزمان هي العنصر المفقود في العمل الفني العربي بشكل كبير، حيث تطغى العموميات على خصوصيات العمل ليضيع بين الخطابية المباشرة وأعمال الدعاية التوثيقية. ويبدو أن النجاح الكبير الذي شهده عرض فيلم "باريس" خلال مهرجان كان وبعده، أثار غيرة المبدعين الأمريكيين فقرروا تقديم عمل سينمائي بذات المواصفات عن مدينة عالمية لا تقل أهمية أو شهرة عن "باريس" وهي مدينة "نيويورك". وكما هي "باريس" مدينة الإلهام الفني منذ قرون، تتمتع "نيويورك" بحضور سينمائي أخاذ تكاد لا تنافسها فيه مدينة أخرى، حتى أضحى بعض كبار المخرجين السينمائيين يعرفون بمخرجي "نيويورك" ومن أشهرهم المخضرم "مارتن سكورسيزي" الذي قدم عشقاً سينمائياً حقيقياً وخالصاً لمدينته وإن بدا مشوباً بكثير من أكدارها في بعض أفلامه. ولعل من الجدير ذكره أن مدينة "نيويورك" قد ألهمت صناع السينما الأمريكيين صناعة فيلم يحمل تواقيع عدة مخرجين قبل عقدين من الزمان. حيث قدم المخرجون النيويوركيون "مارتن سكورسيزي" و"فرانسيس فورد كوبولا" و"وودي ألن" ثلاثة أفلام قصيرة كونت بمجموعها فيلم "قصص نيويورك" في العام 1989.كما كانت أحداث الحادي عشر من سبتمبر الدموية سبباً في ظهور فيلم " 11دقيقة 9ثوان صورة واحدة" الذي كان عبارة عن 11فيلما قصيراً مدة كل منها 11دقيقة يعبر من خلالها مخرج العمل عن رؤيته للأحداث وتأثيرها على العالم المحيط به. وتميز العمل آنذاك بعالميته من حيث القضية المطروحة أو من حيث تنوع المخرجين. فمن الولاياتالمتحدة شارك الممثل "شون بين" بصفته مخرجاً هذه المرة، ومن مصر "يوسف شاهين"، ومن إيران "سميرة مخلمباف"، ومن المكسيك "أليخاندرو غونزالس"، ومن المملكة المتحدة "كين لوش"، ومن الهند "ميرا ناير"، ومن إسرائيل "أموس قيتاي"، ومن اليابان "شوهي ايمامورا"، ومن فرنسا "كلود ليلوش"، ومن بوركينافاسو "ادريس اويدراغو"، وأخيراً من البوسنة والهرسك "دانيس دانوفيك". ولعل استعراض أسماء مخرجي فيلم " 11دقيقة 9ثوان صورة واحدة" يجعل من الواضح أن اختيارهم جاء بناءً على ثقل حضورهم الفني في بلدانهم والسينما التي يمثلونها. وهو الأمر الذي يتناسب مع قضية بحجم أحداث الحادي عشر من سبتمبر وأثرها في العالم ككل. أما في الفيلم الجديد "نيويورك، أنا أحبك" فيبدو الانتقاء أقل صرامة من سابقه. حيث نشهد حضور مخرجين مشاهير ومميزين على المشهد السينمائي النقدي والجماهيري مثل "الفاتح أكين" الألماني من أصل تركي، والهندية "ميرا نيار" ذات الحضور الدائم في المهرجان السينمائية الأوربية، والباكستاني "شيكار كابور" مخرج فيلم "ايلزابث" والمرشح عنه لجائزة "غولدن غلوب"، والياباني "شونجي ايواي" الفائز بجائزتين من جوائز مهرجان برلين السينمائي العريق. ونشهد كذلك حضور مخرجين أقل تميزاً وحضوراً سينمائياً كالإسرائيلي "يوفان اتال" الذي قدم للسينما ثلاثة أفلام مخرجاً وعرف باعتباره ممثلاً بالدرجة الأولى، والأمريكي "ألن هاغيز" القادم من خلفية تلفزيونية كتابة وإخراجاً، والصيني "وين جيانغ" الممثل الذي أخرج ثلاثة أفلام سينمائية. أما مفاجأة الفيلم إخراجياً فهو الحضور الإخراجي الأول لكل من نجمتي التمثيل السينمائي الأمريكيتين "سكارليت جوهانسن" و"ناتالي بورتمان". حيث تشارك كل منهما بتقديم فيلم قصير ضمن أجزاء الفيلم. ولعل هذا الحضور لممثلتين بهذا المستوى من الشهرة ومخرجين أتوا من خلفية تمثيلية غنية وتجربة إخراجية متواضعة يجعل من هذا الفيلم فيلم الممثلين أكثر منه فيلم مخرجين. يبلغ مجموع تكلفة الفيلم إنتاجياً قرابة 14مليون دولار، وقد بدأ المخرجون بتصوير أجزائهم بداية الشهر الماضي على أن يتم الانتهاء من تصوير جميع الأجزاء مع نهاية شهر أبريل الحالي. وبالطبع يجري تصوير جميع الأفلام القصيرة في مواقع تصوير في مدينة نيويورك. بعد الانتهاء من عرض فيلم "نيويورك، أنا أحبك" سيجري الاستعداد لاختيار عدد من المخرجين لتصوير فيلم "شانغهاي، أنا أحبك" المعلن إنتاجه بعد عامين من الآن. الأمر الذي يثير حفيظة بعض متابعي السينما حيث يخشون من تحول هذه السلسلة إلى أفلام لا متناهية العدد بحسب المدن الكبرى حول العالم. وبالتأكيد أن مدى نجاح عمل "نيويورك، أنا أحبك" سيكون مؤثراً على مصير الفيلم الصيني القادم. أما في حال نجح العمل النيويوركي والصيني، فإن تساؤلاً حائراً يقف أمامنا: هل تتوقع عزيزي القارئ أن تصل هذه السلسلة من الأفلام يوماً ما إلى مدينة عربية؟!.