يغلب على عمل أعضاء هيئة التدريس في الجامعات أنه عمل عقلي متصل بالبحث والدراسات العلمية، وحينما يبلغ الواحد منهم السن القانونية للتقاعد يجد نفسه لايزال قادرًا على العطاء العلمي وإفادة الطلاب والباحثين. وفي بعض الجامعات العالمية ليس لعضو هيئة التدريس سن محددة للتقاعد حتى يقرر بنفسه أنه غير قادر على العطاء. ولو ترك العمل في الجامعة فإنه يظل مرتبطًا بها وبأبحاثه، فيبقى له مكتب مزود بمتطلبات البحث من أجهزة وأدوات وكتب وحساب بحث وغير ذلك مما يحتاجه حتى يتوفاه الله أو يترك المكتب. والجامعات تفعل ذلك ليس تقديرًا للعلماء والباحثين فحسب، وإنما للإفادة من قدرات هؤلاء الأساتذة واستثمار تجاربهم الناجحة والفاشلة في الأعمال الجديدة كتصميم البرامج الجديدة وتطوير الخطط التعليمية والإدارية والتنموية. وقد أحسنت وزارة التعليم العالي صنعًا حينما أعطت عضو هيئة التدريس السعودي الذي بلغ السن القانونية للتقاعد فرصة للتعاقد معه حسب احتياج القسم والتخصص. ولكن ماذا عن أولئك الذين لم تتعاقد الجامعة معهم إما لعدم رغبتهم، وإما بسبب رفض طلبهم؟ فهؤلاء الأساتذة يظلون مرتبطين بجامعاتهم وأقسامهم حتى وإن كانوا لا يعملون فيها الآن، فبعضهم أمضى شطرًا كبيرًا من عمره في خدمة الجامعة بتولي بعض المناصب الإدارية وفي تأسيس أقسام وتخصصات وبناء برامج مفيدة للبحث العلمي في مجالات تخصصه، وبعضهم كوّن قاعدة ممن يطورون فكره ويكملون مسيرته العلمية من الطلاب والطالبات الذين صار بعضهم أعضاء هيئة تدريس. ولكي نكون واقعيين، فقلة منهم من كوّن عداوات مع طلابه وزملائه في زمنه وهاهو يحصد نتيجتها في فترة غروب شمسه. ومهما يكن من أمر، فإن القاعدة تسير مع الأغلبية من أعضاء هيئة التدريس أصحاب السمعة العلمية الرصينة؛ فهؤلاء بحاجة إلى وقوف الجامعة معهم حينما يتركونها. حكى لي أحد الأساتذة الرواد من مؤسسي جامعة الملك سعود وممن ساهموا في بنائها لبنة لبنة، أنه احتاج ذات يوم إلى استئجار سيارة بسبب تعطل سيارته فطُلب منه إحضار تعريف حسب النظام الجديد للتأجير، ولما ذهب إلى الجامعة رفضوا إعطاءه تعريفًا لأنه متقاعد، وليس لديهم وظيفة بمسمى متقاعد. وعاد وهو يشعر بالحسرة وخيبة الأمل بسبب عجز الجامعة عن تقديم مساعدة بسيطة كالتعريف به. وشبيه بالموقف السابق ما واجهه أستاذ آخر من الجيل التالي للرواد، وهو من المؤسسين لعدد من المشروعات العلمية في الجامعة، وقد عمل في مناصب إدارية متعددة قبل تقاعده، حينما رفض المسؤولون عن موقع الجامعة على الإنترنت تزويده بموقع يضع عليه كتبه ومقالاته. وإذا كانت الجامعة تطلب ممّن تركها إخلاء السكن والمكتب، فهذا مفهوم لأنه يتيح الفرصة لآخرين؛ ولكن أن ترفض إعطاء موقع على النت فهذا أمر غير مفهوم، وخاصة إذا علمنا أن هذا الموقع سيفيد الجامعة بما يحويه من كتب ومقالات تقدّم للمتصفحين مجانًا. ومع كل ذلك، فالأمل في معالي مدير جامعة الملك سعود الدكتور عبد الله العثمان أن ينظر في هذا الأمر، ومن المؤكد أنه سيجد الوسيلة الناجحة لتقوية علاقة أعضاء هيئة التدريس المتقاعدين بجامعتهم.