من فترة لأخرى تطفو على السطح أسئلة محيرة تدور حول مؤسسة التقاعد السعودية... بعضها قد نجد له إجابات وبعضها لازال يلح طلبا للإجابة، ونقاشات كثيرة، بعضها يقدم الثناء والمديح للمؤسسة، وبعضها يوجه سيلا من الاتهامات والانتقادات لها، وما يهمنا في هذا السياق هو تسليط الضوء على عدد من النقاط التي تهم المتقاعد والمؤسسة على حد سواء. وإيضاح بعض الآليات والأدوات لتلافي أي خلل أو تقصير في أداء المؤسسة. إن من أهم واجبات مؤسسة التقاعد، تقدير هؤلاء المتقاعدين (أصحاب رأس المال) الذين اقتطعت من دخولهم نسبة محددة شهرية وعلى مدى أعوام طويلة، والتي تعتبر أوعية ادخار لدى مؤسسة التقاعد وليس إرثا أو تكافلا اجتماعيا كما تبنى فلسفة التقاعد حاليا، يضاف إلى ما يدفعه الموظف ما تسهم به الدولة أيضا بنسبة جيدة سواء في رواتب المدنيين أو العسكريين، وفي نهاية مشوار أعمارهم تقطر عليهم المؤسسة مبالغ زهيدة، قد لا يتعدى بعضها الألفي ريال أو أقل (وذلك قبل توصية مجلس الشورى مؤخرا والتي تظل مجرد توصية لم تأخذ نصيبها من التطبيق الفعلي بعد، لرفع الحد الأدنى لرواتب المتقاعدين إلى مبلغ 4000 ريال) ومع ذلك يبقى الفارق شاسعا بين ما اقترحه المجلس الموقر وما تقدمه بعض الدول الخليجية المجاورة، التي رفعت الحد الأدنى لرواتب متقاعديها إلى مبلغ عشرة آلاف درهم كما تم نشره في الصحف المحلية، ناهيك عن المزايا العديدة التي يحظى بها المتقاعدون في تلك الدول، حيث يلقون الكثير من التشجيع والتقدير للاستفادة من خبراتهم المتراكمة ومهاراتهم المتميزة في الكثير من المجالات، والمصيبة الكبرى أن يترك هؤلاء المتقاعدون بعد انطفاء شمعة حياتهم للعيش في ظل شبح من الفراغ القاسي، مما يرهق نفسياتهم ويفاقم أمراضهم ومعاناتهم، مما يشعرهم بأنهم أصبحوا عالة على المجتمع وأنهم ماتوا فعلا وهم قاعدين. أين أنتِ يامؤسستنا العزيزة من هموم المتقاعد التي اثقلت كاهله، والتي يتمثل جزءا منها في مواجهة غلاء المعيشة المرهق والارتفاع المتزايد لأسعار السلع والخدمات (خاصة الغذائية والدوائية) وارتفاع نسبة التضخم المتزايدة سنة بعد أخرى والتي تسبب الإزعاج لكبار التجار فما بالك بالمتقاعد الضعيف المرهق بما فيه الكفاية. من أغرب تصرفات مؤسسة التقاعد كذلك غياب الشفافية وقواعد الإفصاح الضرورية عن المتقاعدين، وعدم إشراكهم في تقييم المشروعات المتعددة التي تقوم المؤسسة بالاستثمار فيها أو تمويلها، وخاصة أن هذا المتقاعد هو الشريان الرئيسي لضخ الأموال للمؤسسة، وعلى أقل تقدير يتعين على المؤسسة إطلاع هؤلاء المتقاعدين على أنواع هذه الاستثمارات وتوضيحها بكافة أنواعها المختلفة وكذلك نشر جميع الحسابات الختامية، وقائمة الدخل والمصروفات والمركز المالي الختامي للمؤسسة في الصحف اليومية المعروفة بشكل دوري (غير مدققة) ونشرها في نهاية الفترة المالية (مدققة) من قبل مكاتب محاسبية قانونية معروفة، يتم تعيينهم من قبل الجمعية العمومية للمساهمين والممولين المتقاعدين (حيث يقترح أن يكون هناك توجه لإنشاء جمعية عمومية أو هيئة تشكل تحت إشراف المؤسسة من مجموعة من المتقاعدين ذوي الخبرة والدراية العلمية والعملية في مثل هذه الأمور والذين يمثلون كافة المتقاعدين الآخرين والذين هم من يختارون وينتخبون أعضاء الجمعية) وذلك لإظهار كافة الأرباح، أو الخسائر الخاصة بالمؤسسة والتي من الممكن أن تترتب على الدخول في بعض الاستثمارات الخاطئة وغير المجدية من قبل المؤسسة في الداخل والخارج. ومثال ذلك بعض الاستثمارات العقارية (ومنها على سبيل المثال مشاركة مؤسسة التقاعد مؤخرا في رأس مال شركة ريسان العربية بمبلغ 450 مليون ريال والتي تقوم بتطوير حي الرويس بجدة وهو مشروع غير مأمون العواقب لمعارضة الملاك الشديدة وأتمنى أنه تم بدقة دراسة جدوى هذا المشروع والتأكد من نتائجه من قبل مختصين مؤهلين قبل الدخول فيه) واستثمارات عقارية أخرى تشتريها أو تسهم فيها مؤسسة معاشات التقاعد من أموال المتقاعدين في جميع أرجاء المملكة، ولا علم لهؤلاء المتقاعدين الغافلين عن هذه الاستثمارات إلا عن طريق ما ينشر في بعض وسائل الإعلام المختلفة، والسؤال المحير! هل يؤخذ رأي المتقاعدين في مثل هذه الاستثمارات والحصول على ملاحظاتهم بشأنها؟، ومن الذي قام بتقييم هذه الاستثمارات ودراسة جدواها وهل هو مؤهل لذلك وهل لديه الخبرة الكافية والمؤهلات العلمية والعملية المناسبة، أليس من الأجدى تشكيل لجنة أو هيئة من المتقاعدين أنفسهم في مختلف التخصصات والخبرات وهم كثر بين صفوف المتقاعدين الذين زاد عددهم على مليون ومئة ألف متقاعد مؤخرا، ليتسنى لهم المشاركة بتقييم هذه الاستثمارات ودراسة جدواها بعناية ودقة لما يحقق مصلحة المتقاعدين والمؤسسة على السواء (وخاصة أن أهل مكة أعرف بشعابها). وليس أمرا مستهجنا أو مستحدثا نشر النتائج الختامية والقوائم المالية للمصلحة في الصحف اليومية لتمكين المتقاعدين وغيرهم للاطلاع عليها وفحصها بكل شفافية وعدالة، فمثلا نجد مؤسسة الضمان الاجتماعي الأردنية التي تعنى بشؤون المتقاعدين هناك تقوم بنشر كافة قوائمها المالية ونتائجها الختامية في الجريدة الرسمية وجميع الصحف اليومية الأخرى، وهذا أمر معتاد ومتطلب رسمي في معظم الدول الأخرى. والمثال الآخر وهو ليس ببعيد يتعلق بشراء مؤسسة التقاعد حصص (أسهم) في بنك (سامبا) من شركة المملكة القابضة السعودية، وهو استثمار يحتمل فيه جانب الخسارة أكثر من الربح بسبب التذبذب الكبير الحاصل في سوق الأسهم السعودية ما بين فترة وأخرى، والخسائر الفلكية المتكررة في نفس السوق لمرات متعددة، وكذلك لأسباب شرعية واستثمارية لا يتسع المجال للخوض فيها حاليا ويرفضها الكثير من المتقاعدين الضعفاء الذين كانوا يأملون في المحافظة على أموالهم المتراكمة والتي يأتمنون المؤسسة عليها وزيادتها بعد أن يتم استثمارها بمعرفتهم ومشاركتهم في أوعية استثمارية مقبولة شرعيا وماليا. إن اتجاه مؤسسة التقاعد وتشجيعها لرفع سن التقاعد إلى 65 عاما يبدو في الظاهر أنه لمصلحة المتقاعد، ولكن في الحقيقة هو في غير مصلحته، لقرب وصوله وزوجته إلى سن الشيخوخه وكثرة تفشي الأمراض في هذه السن (65 عاما أو بعدها) واقترابهم من سن الوفاة حسب أكثر الإحصائيات ومنها إحصائيات مؤسسة التقاعد نفسها، مما يقلل من استفادة المتقاعد من الراتب التقاعدي إلا بنسبة ضئيلة لا تتعدى 7% وسيؤول الراتب التقاعدي بعدها إلى المؤسسة نفسها كإرث شرعي. وخاصة أن معظم الأبناء آنذاك إما أن يكونوا قد انخرطوا في السلك الوظيفي أو تجاوزوا السن القانونية للاستفادة من الراتب. وإنني مع إنقاص سن التقاعد إلى سن 45 50 عاما وليس زيادته، مما يعود بعد ذلك على المتقاعد والمجتمع كله بالعديد من المميزات المفيدة وعلى رأسها انقاص نسبة البطالة وزيادة الإحلال الوظيفي وخاصة للشباب الذين ينتظرون الوظائف الشاغرة منذ فترات طويلة. ومن جانب آخر نجد أن مؤسسة التقاعد ساهمت ودعمت مشكورة برنامج مساكن لمساعدة المتقاعد لتمويل وشراء وحدات سكنية مناسبة، ولكن حاجز الشروط الصعبة والتعجيزية مثل سن وراتب المتقاعد وغيرها سيحرم شريحة كبيرة من المتقاعدين الالتحاق والاستفادة من هذا البرنامج. كما أن الغموض الذي يلف معظم أنظمة مؤسسة التقاعد والتي تحتاج إلى الكثير من الدقة والإفصاح لترجمة هذه الأنظمة حتى يستطيع أكبر عدد من المتقاعدين الاطلاع عليها وفهمها والاستفادة منها، مثل النظام الخاص بتناقص الراتب ووصوله إلى أقل من 50 % للمستفيدين بعد وفاة المتقاعد الأصلي وحق المستفيدين وقتها لطلب رفع الراتب إلى نسبة 50 % غير معلن ولا يعلم به إلا عدد قليل من المستفيدين. والملاحظة الأخرى، أن النظام السعودي يجيز للموظف الحكومي الحصول على راتبه كاملا بعد انقضاء 40 عاما على اشتراكه في صندوق التقاعد، وهذه مدة طويلة خاصة إذا ما قارنا هذا بما قرره وطبقه نظام التقاعد الإماراتي والذي حدد 30 عاما أو أكثر عند إتمام مدة الاشتراك في صندوق التقاعد وذلك تقديرا للخدمة الطويلة التي أفنى فيها المتقاعد زهرة شبابه في خدمة وطنه. علما أن نسبة الحسم من راتب الموظف السعودي (9 %) تعتبرالأعلى مقارنة بالدول الخليجية الأخرى، حيث إنه يتم حسم نسبة (5 %) فقط شهريا من راتب الموظف في دولة الإمارات بالإضافة إلى نسبة حكومية قدرها (15 %) تضاف إلى نسبة الموظف. ليس الهدف هنا إلقاء اللوم على مؤسسة التقاعد فهي محكومة بأنظمة وروتين قديم لم يتم تطويره منذ فترة طويلة تصل إلى أكثر من ثلاثين عاما والذي لايتواكب مع تغير الظروف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وغيرها وكذلك حجم التغيرات التي طرأت على مجتمعنا وكافة المجتمعات الأخرى وخاصة المتقاعدين. وإنه واضح جدا ضرورة قيام المؤسسة بتطوير وتحديث كافة أنظمتها بشكل جذري وليس تغييرا جزئيا أو لبعض المواد فقط كما حدث في تعديل النظام الجديد الذي صدر منذ فترة غير بعيدة. وكذلك المطلوب من المؤسسة بإلحاح شديد قيامها أو تمويلها للعديد من الأبحاث والدراسات (لم ألاحظ قيام المصلحة بأي أبحاث أو دراسات جديدة منذ فترة طويلة) وذلك للعمل على توفيير حياة كريمة تليق بالمتقاعد الذي أفنى زهرة شبابه في خدمة بلده، وليس أن ينتهي به الأمر ليجد نفسه وقد انقضت أزهى سنوات عمره، لا يمتلك إلا راتبا تقاعديا مجردا من كافة البدلات والمميزات. وفيما يتعلق بتقاعد أساتذة الجامعات فإنهم يحالون إلى التقاعد عادة بعد بلوغهم الستين عاما أو بعدها في حالة التمديد لهم لسنوات قليلة ويكونون وقتها في سن النضج العلمي وتراكم الخبرات العلمية والعملية، وتكون المؤسسة العلمية التي ينتمون إليها، ولمصلحة الوطن الغالي بشكل عام، والذين يكون وطننا العزيز آنذاك في حاجة ماسة إلى توهج علمهم وخبراتهم المتميزة. والغريب في الموضوع أنه يتم التعاقد مع أساتذة أجانب لا يضاهونهم لا علما ولا خبرة بشؤون واحتياجات الوطن، والمضحك أكثر أن غالبية هؤلاء الأساتذة الأجانب يكونون محالين إلى التقاعد في بلادهم أو هم قريبون من ذلك، ويتم التعاقد معهم برواتب عالية مع صرف بدل سكن لهم وهذه ميزة لا تتوافر للأستاذ السعودي وصرف تذاكر سفر لهم ولجميع أفراد عوائلهم، وبدلات عديدة أخرى لايحصل عليها أساتذة الجامعة السعوديون بأي حال من الأحوال. إن نظام التقاعد الحالي لا يتواكب مع توجيهات وتطلعات مليكنا المحبوب خادم الحرمين الشريفين حفظه الله وأعزه لمحاربة الفقر وتحقيق أقصى الرفاهية والعيش الكريم للمواطن (وخاصة المتقاعدين).