في عالم يتسارع فيه إيقاع التطورات العلمية والتكنولوجية، يبقى السؤال عن كيفية بناء الإنسان في أعوامه الأولى محورا أساسيا في منظومة التعليم. فمرحلة الطفولة المبكرة (من الولادة إلى ستة أعوام) تعتبر اللبنة الأولى في تشكيل الهوية المعرفية والعاطفية والاجتماعية للإنسان، هنا يبرز دور تخصص رياض الأطفال كركيزة تربوية وعلمية، لا ك"ملاذ" للمعلمات الراغبات في الهروب من تعقيدات التعليم النظامي، بل كمهمة تتطلب معرفة عميقة بطبيعة النمو البشري في أدق مراحله. يستند تخصص رياض الأطفال إلى نظريات علمية رصينة، مثل نظرية بياجيه في النمو المعرفي، ونظرية فيجوتسكي في التعلم الاجتماعي، وفلسفة مونتيسوري التربوية. هذه النظريات تؤكد أن الأعوام الأولى من حياة الطفل هي الفترة الأكثر حساسية لتنمية المهارات الحركية واللغوية والمعرفية. فعلى سبيل المثال، يشير بحث نشر في مجلة علم النفس التنموي عام 2022 إلى أن 90 % من نمو الدماغ البشري يكتمل بحلول سن الخامسة، مما يجعل التدخل التربوي المبكر والمتخصص أمرا حيويا. وعند الحوار حول جودة التعليم، ينسى الكثيرون أن الطفولة المبكرة هي الفترة التي تحدد مصير الإنسان. هنا، لا نتحدث عن حفظ الحروف أو الأرقام، بل عن بناء الدماغ نفسه، ويكون التفاعل مع البيئة المحيطة هو "وقود" هذا النمو. المعلمة المتخصصة تعرف هذا جيدا، فتصمم أنشطة تحرك الحواس كلها: اللعب بالطين لتنمية المهارات الحركية، والاستماع إلى القصص لبناء الخيال، والغناء لتعزيز الذاكرة. في المقابل، عندما تتولى معلمة غير متخصصة هذه المهمة، غالبا ما تتحول الروضة إلى "حضانة" تدار بالحدس أو العادات، دون فهم لاحتياجات الأطفال. فمثلا، قد تجبر طفلا على الجلوس ساكنا لساعات وهو غير مستعد لذلك، أو تهمّش أسئلته الفضولية بدلا من توجيهها. هنا، يفقد الطفل فرصة ذهبية للنمو، ويزرع في نفسه شعورا بأن التعلم "ممل" أو "صعب" قبل أن يبدأ. البعض يظن أن تدريس رياض الأطفال يقتصر على إعداد أنشطة ترفيهية أو رعاية الأطفال حتى يحين موعد دخول المدرسة. لكن الحقيقة أعمق: المتخصصة في هذا المجال تشبه جسرا بين عالم الطفل البريء وعالم المعرفة الواسع. فهي تعرف أن الطفل في هذه المرحلة يتعلم عبر اللمس والتجربة، لا عبر التلقين. فعندما تدخل مفاهيم الرياضيات من خلال عدّ أزهار الحديقة، أو تعلّم اللغة عبر سرد قصة عن صديقين تشاركا لعبة، فإنها تحوّل المفاهيم المجردة إلى تجارب ملموسة. للأسف، يلجأ بعض المعلمات إلى تدريس رياض الأطفال اعتقادا منهن أن المهمة "أقل تعقيدا" من تدريس المراحل الأخرى. لكن هذا الخيال يتبخر سريعا أمام التحديات اليومية: طفل يعاني من صعوبات في النطق، وآخر يظهر علامات التوحد، وثالث يعاني من القلق الاجتماعي. هنا، تظهر الفجوة بين المعلمة المدربة وغير المدربة. فالثانية قد تتعامل مع هذه الحالات بتجاهل أو قسوة، بينما الأولى تعرف كيف تتعاون مع الاختصاصيين النفسيين، وتكيف الأنشطة لتلائم كل طفل. النتيجة؟ أطفال يعانون من فجوات في التعلم، أو يفقدون الثقة بأنفسهم، أو يطورون نظرة سلبية تجاه المدرسة. فكما يقول المثل: "إذا كنت لا تزرع بذورا جيدة في التربة الخصبة، فلا تنتظر شجرة يانعة". في كثير من الدول العربية، لا تزال روضات الأطفال تعاني من نقص في الموارد، وغياب التدريب المستمر للمعلمات، وانعدام الرقابة على المدارس غير المرخصة التي توظف غير المتخصصات. وفقا لتقرير منظمة اليونسكو عام 2023، فإن 45 % من معلمات رياض الأطفال في المنطقة العربية لا يحملن تخصصا ذا صلة، مما يحرم 12 مليون طفل من حقهم في تعليم مبكر نوعي. لذا، يجب أن يشمل الاستثمار في الطفولة المبكرة ليس فقط بناء المدارس، بل أيضا في تطوير برامج تدريبية تدمج بين النظرية والتطبيق العملي. وزيادة الوعي المجتمعي بأهمية التخصص، عبر حملات إعلامية تظهر قصص النجاح. وتحسين الظروف المادية والمعنوية للمعلمات، لجذب الكفاءات ووقف "نزيف الهروب" إلى مراحل تعليمية أخرى. عندما تدرّب المجتمعات معلمات متخصصات في رياض الأطفال، فإنها لا تنمي أفرادا أذكياء فحسب، بل تغرس قيما مثل التفكير النقدي والتعاون. فالأطفال الذين يمرون بتجربة تعليمية مبكرة جيدة يكونون أكثر استعدادا لمواجهة تحديات المدرسة، وأقل عرضة لمشكلات السلوك، وحتى أكثر قدرة على الإبداع. يقول الفيلسوف جون ديوي :"التعليم ليس استعدادا للحياة، بل هو الحياة نفسها" . وكلما قدّمنا للأطفال معلّمات يفهمن هذه الحقيقة، اقتربنا من جيل يدرك قيمته ويبدع في صنع مستقبله. تخصص رياض الأطفال ليس "درجة علمية سهلة"، بل هو رسالة؛ رسالة تقول إننا نهتم ببناء الإنسان قبل المبنى، وأننا نؤمن بأن كل طفل يستحق أن يزرع في أرض خصبة، حتى لو كبرت التحديات. يقول أفلاطون :"الطفل ليس إناء يملأ، بل شعلة يجب إشعالها".