في ليالي شهر رمضان المبارك الماضي، كان إمام مسجدنا يقف بعد بعض ركعات القيام في جلسة خفيفة، قبيل بزوغ الفجر. في تلك اللحظات الروحانية، حيث تتعانق النفوس وتصفو القلوب، يغمرنا بشرح معاني الآيات التي تلاها في الركعة السابقة، وما تحمله من لطائف الحكم ونفائس المعاني. ومن بين تلك الآيات التي أنارت قلوبنا، كانت الآية الكريمة: "وقولوا للناس حسناً". وما جاء في مضامين شرحه وبيانه، أن الكلمة الطيبة قادرة على رفع إنسان، وتغيير مصير، وإحياء قلب، وبث الأمل في النفس. فرغم قلة كلماتها، إلا أنها تحمل معاني عميقة تكفي لتغيير نظرتنا للكلمات التي قد تبني أو تهدم، وتعالج أو تجرح، وتحيي أو تميت. واستشهد بما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم: "لا طِيَرَة، وخيرها الفأل"، موضحًا أن الفأل هو "الكلمة الطيبة" التي يسمعها أحدنا، وأن رسول الله كان يحب الفأل لما فيه من بث الأمل وتحفيز النفس على التوكل وحسن الظن بالله. وأكد أن التفاؤل بالكلمة الحسنة يُعد من دلائل سمو الإيمان، وأن اختيار الألفاظ الجميلة لا يعكس فقط رُقي اللغة، بل يكشف عن نقاء القلب وسلامة النية. وقد لامس حديثه أعماق المصلين حين أشار إلى أن من أعظم أبواب الخير هو وزن كلماتنا قبل أن نطلقها، واستشعار أثرها في نفس من يسمعها، مؤكدًا أن الكلمة ليست مجرد صوت، بل موقف يُترجم، وأثر يُزرع. قد تسبق أثرها دمعة أو تنهيدة، أو قرار يغير مسار حياة إنسان. ولا عجب أن تكون الكلمة مفتاحًا للنجاح أو معول هدم للنفوس. فكم من كلمة طيبة رفعت معنويات إنسان، وشجعت أطفالًا، وبثت فيهم الأمل والفضائل! وكم من كلمة أخرى كانت كالسيف، حطمت من قدر الناس، وأطفأت عزائمهم، وأغلقت الأبواب في وجوههم، حتى دمرت نفسيًا ومعنويًا وقطعت بينهم صلاتهم. فكيف يكون الحال مع الأفعال الخبيثة والدسائس السامة التي تنخر في الأرواح وتخلخل النسيج الأسري والاجتماعي؟ وعندما نتأمل فيما أوجزه مع ما في الحياة، نجد شواهد واقعية مؤلمة وأحداثاً مؤسفة. أذكر منها ما انتشر على إحدى منصات التواصل الاجتماعي من حوار صادق، حيث سأل أحدهم معلمًا: "هل كنت معلمًا في مدرسة كذا عام كذا في مرحلة المتوسطة؟" فأجابه المعلم بالإيجاب، فقال السائل: "بيني وبينك وقفة أمام الله. لقد عقدتني بالدراسة، واحتقرتني مراراً أمام الطلاب، وحطمت مستقبلي. لم أكمل تعليمي، وأنا اليوم في وظيفة متواضعة، بينما زملائي في وظائف مرموقة، وبعضهم في مناصب رفيعة." كانت كلمات المعلم كفيلة بتحطيم قلب طالب صغير، وتركت أثراً لم يندمل مع السنين. وفي المقابل، يروي أحد المعلمين أنه قال يوماً لطالب ضعيف وخجول لا يشارك في الصف: "أنت ذكي يا بني، ولديك مهارات تفوق.. فقط آمن بنفسك." يؤكد أن تلك الكلمة غيرت مسار الطالب تماماً، فأصبح من المتفوقين، وكان يردد دائماً: "كلامك يا أستاذي جعلني أثق بنفسي لأول مرة". إنّ للكلمة سلطانًا يفوق وقع السيوف، وقوة لا تُقاس إلا بمدى أثرها في الأرواح. فربّ كلمة أنعشت قلباً ذابلًا، وأخرى أطفأت شمعة حياة في صدور أصحابها. ولسنا اليوم أمام ترف لغوي حين نُنادي بالكلمة الطيبة، بل نحن أمام واجب إنساني، ومسؤولية إيمانية، وعُهدة أخلاقية. تؤكد دراسات علمية هذا الأثر العميق للكلمات؛ فقد بيّنت دراسة صادرة عن جامعة هارفارد الأمريكية أن الكلمة التحفيزية من المعلم ترفع دافعية الطالب بنسبة 60 % كما أظهرت دراسة من جامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس أن الكلمات الإيجابية تنشّط مراكز المكافأة في الدماغ، وتُعزز الثقة والانفتاح على التعلّم. أما من جهة الأثر العضوي المباشر، فقد كشفت دراسة نُشرت عام 2022 على موقع "هيراجيت" الياباني، المتخصص في الوعي والصحة النفسية، أن الكلمات السلبية لا تؤثر فقط على المشاعر، بل قد تحمل طاقة مدمّرة تؤدي إلى تعطيل أو حتى موت بعض خلايا الدماغ، بينما تُعزز الكلمات الإيجابية النشاط العصبي وتحفّز مناطق ترتبط بالهدوء والتركيز، مما يُبيّن أن الكلمة تتجاوز حدود اللسان إلى عمق الأعصاب والنفس. ولا يقتصر الأثر على التعليم فقط، بل يشمل بيئات العمل والعلاقات العامة. فقد أظهر استطلاع أجرته مؤسسة جالوب الأمريكية (2021)، أن الموظفين الذين يتلقون كلمة تقدير أسبوعيًا ترتفع إنتاجيتهم بنسبة 42 %، وتقلّ احتمالية تركهم للعمل بنسبة 30 % وفي المقابل، أكدت جامعة أوهايو الأمريكية (2008) أن الكلمة السلبية تعادل في أثرها النفسي خمس كلمات إيجابية، وهي ظاهرة تُعرف ب الانحياز السلبي. أخيراً، فلنكن صُنّاع الأثر الجميل، نغرس الكلمة الطيبة في بيوتنا وساحات العمل. قد تكون كلمة واحدة قادرة على إنقاذ نفس، وإعادة الأمل، وفتح أبواب كانت على وشك الإغلاق. لنجعل من كلماتنا دعاءً حيًا يتجول بين الناس، ولتكن ألسنتنا نبعاً من الخير لا ينضب، ومصدراً من النور لا يخبو.