الحريري هو المترجم المعروف محمد بن علي الحريري، وزعلة هو الأديب المعروف الدكتور علي زعلة، ومنهما وبينهما مساحة من ود وورد نبتت في قلبي لهما منذ اللقاء الأول، ومنهما وبينهما أُوقدت شرارة التفكيكية حديثاً ورأياً ومنظوراً، ومن الطبيعي ألا يتفقا حول التفكيكية ولا البنيوية ولا حتى الشكلانية، فزعلة ينطلق من قناعة توظف الحقل المعرفي بكافة دلالاته ومفاهيمه وبصرامة الأديب اللغوي، بينما ينطلق الحريري من منظور المترجم الذي ينطلق من النص ويتعامل مع الحالة، ويتجه مباشرة إلى الدال والمدلول ويعمل أدواته بمرونة لازمة تختلف درجاتها من نص إلى نص، فبعض النصوص لا تحتمل التفكيكية بمفهومها العميق أو البسيط، فليس المجال دائماً متاح للمترجم للابتعاد عن المعجم. كان اللقاء في رحاب ديوانية القلم الذهبي، وكان الموضوع بالنسبة لي جديراً بإثارة حماس النقاش لمزيد من الطرح والحوار بين لغتين مكتنزتين بالمعرفة التخصصية النظرية والممارسة المنهجية، ولعل مستوى اللغة المُتحدث بها بين زعلة والحريري ودرجة تمكن كل منهما في تخصصه زادت من رغبتي في امتداد النقاش لكن كان لدينا برنامج وموضوع أكثر أهمية مرتبط بيوم العلم والهوية، وترصد نظرات ياسر مدخلي الودودة الصارمة إلينا للبدء في الموضوع الرئيس بعد اكتمال وصول المدعوين؛ جعلتنا نتجه مسرعين إلى حديثنا المجدول. التفكيكية ليست مجرد نظرية لغوية، فهي كما ألمح زعلة وبمعنى حديثه موضوع كبير وتفريعات وتشعبات، وهي فعلاً كذلك، ولكنها من منظور الحريري أداة لتفكيك المفردة وإخراجها من قالب النص لإبعادها عن مصيدة الترجمة الحرفية، وأخذها إلى جو النص العام بما يعني المرور على التداولية، والبيئة وثقافة الكاتب بما يحمله من نمط فكري وتوجه معرفي، وبالتالي أعادتها إلى النص ونسقه الداخلي بعد أخذ هذه الكلمة في جولة سياقية، وهي الجولة التي يقعد لها علم اجتماع الأدب. إنها الترجمة التي تميز المترجم الإنساني عن المترجم الآلي، والتي تتعامل مع الكلمة والنص تعامل الروح مع الروح. ولا أخفي أنني بعد أن استمعت جيداً لزعلة بعد انتهاء النقاش عند توجهنا لوجبة السحور زاد يقيني أنه يملك مرونة ووعي تجعله يتبنى رأياً دون أن يتعصب له، وكذلك كان الأمر بالنسبة للحريري، والحقيقة أن هذا ما نحتاجه ليكون للاختلاف ثمرة وللنقاش فائدة، مع وجود العلمية التي تتطلب وضوح المنطلقات والبناء المعرفي والتي تمنحنا بصمتنا الخاصة وقناعاتنا التصورية المتفقة أو المتباينة وفق درجات متفاوتة من الاتفاق وعدمه. التفكيكية وجدالاتها وقوتها البناءة، ونارها المضرمة على اللغة جديرة بأن تكون موضوع نقاش ممتد، وطرح متنوع يسمع من هذا ومن هذا، وهي المصممة في شكلها الحديث على يد أحد أهم العلماء –جاك دريدا- الذي جاء نتاج ثقافتين متصارعتين متصالحتين، فجاءت نظريته تشبه شخصيته وتتلون بلون وعيه، ودرجة عقليته الملهمة، ولكنها موجهة بشكل يحتاج أن نعيد معه تفكيكها أو لنقل تشريحها لنأخذ منها ونترك ونوفق بما يتفق مع هويتنا اللغوية وبنائنا الفكري وتصورنا للغة في قالبها المتغير والثابت.