شَغَل الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود - طيب الله ثراه - مساحة شاسعة من الإعجاب والتقدير، عند جمهرة كبيرة من الزعماء والساسة الذين عاصروه أو قرؤوا الكثير عنه وسمعوا عن بطولاته الفذة ومواقفه الخالدة فَدَوَى مجده في الآفاق، كما لفت طائفة من علماء الأمة كانت تَجِل مكانته وتقدر دوره وتعتز بمواقفه لكونه أهم الزعامات الإسلامية في العصر الحديث متوسمة فيه المنقذ بعد الله، لا سيما بعدما أصاب بلاد المسلمين من تفكك وتشرذم، واستعمار جاثم على جل هذه البقاع والأقطار، بل ولفت قَبِيل من المشتغلين بالأدب والشعر وجذبتهم شخصيته العربية وما عرفت به من نبالة وشجاعة ومن كرم وسُؤدد، ولا جرم أن شخصية تجتمع فيها هذه الصفات حري أن يتفرد الشعراء بتصويرها وإبراز ما تضمه من جوانب مشرقة، فكتبت فيه الملاحم ونظمت فيه المدائح، من شعراء هذه البلاد وشعراء الأقطار العربية الأخرى وضمتها دواوينهم لتكون قلادة لأشعارهم. وحين جاء مؤتمر الأدباء السعوديين الأول المنعقد بمكة والذي نظمته جامعة الملك عبدالعزيز عام (1394ه) ارتأت أن يكون من ضمن محاور الأبحاث محوراً تحت عنوان (الملك عبد العزيز في مرآة الشعر) فانحاز لهذا المحور الأديب والمؤرخ والصحفي الشيخ عبدالقدوس الأنصاري (1327ه - 1403ه) صاحب مجلة المنهل ومن جميل المصادفة وتوارد الخواطر أن الشاعر الشيخ عبدالله بن إدريس قد حمل بحثاً للمؤتمر يصب في نفس الموضوع وحين علم ابن إدريس باختيار الأنصاري لهذا الموضوع تنازل له بنبل وقدمه بعد ذلك في مؤتمر عن الملك عبدالعزيز عقد بالرياض عام (1406ه) ثم أصدره إبان احتفالات المملكة بالمئوية عام (1419ه). نعود مرة أخرى إلى مبحث الشيخ الأنصاري الذي حمل عنوان (الملك عبدالعزيز في مرآة الشعر) فقد قدمه للمؤتمر ولاقى من الحضور المتابعة والإعجاب ما جعله يخرجه في كتاب مستقل في نفس العام الذي عقد فيه المؤتمر وبعد سنوات لا تزيد على العشر صدرت طبعته الثانية عن دار العمير الثقافية عام (1403ه)، والشيخ الأنصاري أحد روافد الثقافة في المملكة وله تصانيف كثيرة تقترب من العشرين كتاباً عالج فيها قضايا الأدب واللغة والتاريخ والسيَّر كما نظم الشعر، ويحسب له كتابة أول رواية سعودية، فرجل له كل هذا الحضور الثقافي لا مشاحة أن يكون له ذوق وطبع من خلال اطلاعه الواسع وقراءته المستمرة في عيون الآداب والفنون، وكان جميلاً أن يكون بيننا هذا الكتاب بعد نفاد طبعته الأولى حتى يعلم المتلقي كيف كان الأنصاري يختار النصوص وبأي طريقة يعالجها درساً ونقداً. يقول الشيخ عبدالقدوس في تقديمه للكتاب: إن باعثي على اختياره، ما لاحظته من أنه موضوع شبه مبتكر في نسجه وحبكه فهو موضوع يندمج فيه تاريخ سيرة الملك عبدالعزيز آل سعود مؤسس المملكة وموحد شملها بأدب الشعر الذي أُرّختْ حياته المثلى في إطاره. كسّر المؤلف كتابه على قسمين كان القسم الأول منه عن شعر الملامح وقصد به الشعر الذي يرسم ويجسد الشمائل والمفاخر والمآثر المعروفة الأبعاد، وقد بلغ عدد الشعراء فيه تسعة عشر شاعراً بينما جاء القسم الآخر عن شعر الملاحم وهو الذي يصور فيه الشاعر سيرة متكاملة عن بطله وقد نظم في هذا المنحى شاعران هما: الشاعر السعودي خالد الفرج صاحب ملحمة (أحسن القصص) والتي كتب مقدمتها الأديب محمد علي الطاهر صاحب صحيفة الشورى، أما الملحمة الأخرى فكانت للشاعر اللبناني بولس سلامة صاحب ملحمة (عيد الرياض) والتي أسفت كثيراً لعدم إيرادها في الكتاب ناهيك أن المؤلف لم يقف على ملحمة أخرى ثرية وخصبة لم يتطرق إليها والموسومة ب(سلاسل الذهب في ملك العرب) للشاعر السوري ميخائيل بلدي وأذكر منها هذه الأبيات: يا كعبة الوحي والأقداس والنعم مهوى الجوانح من عرب ومن عجم أجل قدرك أن أسعى إليك وقد حرمت إلا على ذي الطهر والندم إلى جانب أن الأنصاري كان يعرّف بالشاعر الذي يختاره ويبرز بعض خصائصه الشعرية ويظهر مكامن الجمال التي حملها النص. يستهل المؤلف هذا الكتاب بميمية الشاعر المكي أحمد الغزاوي وله في هذا النهج جملة من المدائح أوقفها لشخصية المؤسس في أكثر من مناسبة، يقول الغزاوي في مطلع قصيدته: ألا لا تلمني اليوم أن أتكلما فإن فؤادي بالأسى قد تكلما وبعد هذا المطلع الذي راعى فيه الشاعر الجناس الذي خلا من التكلف والتصنع وما يحمله من انسجام وعفوية، يعود ليقول مخاطباً الملك: إمام الهدى لازلت للدين موئلا يعز بك الإسلام والعرب والحمى فسر في طريق الرشد تَجْنِ ثماره قريبا فَقِدْماً فاز من تقدما ثم ينطلق الشاعر إلى تصوير بارع لأعمال المؤسس البطولية وما وهبه المولى عز وجل من عدل وتقوى لرفع راية التوحيد: أقمتم صروح العدل والفضل والتقى وأعليتم بنيان شرع تهدما وأطلقتمو ما قيد البغي والهوى وقيدتمو ما أطلقاه تحكما ومن مصر تقع عين الأنصاري على شاعر أصفى من الغمام إنه أحمد فتحي شاعر الكرنك من خلال ما ضمه ديوانه (قال الشاعر) فيختار ميميته الرائعة التي مدح بها الملك عبدالعزيز وإليك مطلعها البديع: بَسَمَتْ لمشرق عيدك الأيام وصفا الزمان وصحت الأحلام عيد كما ائتلق الربيع على ربى نشرت عبير ورودها الأيام لبست به الدنيا قشيب ثيابها وتوارت البأساء والآلام ثم يقف فتحي يصف عهد المؤسس وما يحمله من مآثر ومحامد حتى أينع الدهر بحضوره: أكرم بعهدك في الزمان مُلاوَةً كالحلم زجاه مُنيً وسلام هي من شباب الدهر أنضر نبتة فيه وأينع ما يرى ويسام خمسون أقبل بالمآثر والندى عام، وولى في المحامد عام عبرت كومض البارق اللماح في ليل تداول جانبيه ظلام أما الشاعر خيرالدين الزركلي وبما يحمله شعره من لغة عالية وصفاء ديباجة فقد وفق في (فائيته) الباذخة التي حاكها بمناسبة ذكرى جلوس الملك عبدالعزيز والتي منها: هنالك من أبناء يعرب أمة كمتلمع الحدين زبن بإرهاف حجازية نجدية مضرية من الدين والدنيا لها البُرُدُ الصافي تقدمها (عبدالعزيز) فصانها من الحَلَكِ المرئيّ والشّرَكِ الخافي ثم يصف حكمة المؤسس الهادية وعبقريته السامية وأن الجزيرة العربية باتت معقلاً آمناً لكل عربي ويقول في ذلك: بنى الملة الغراء والوطن الذي وقاه من الأرزاء مصقول أسياف بنى لكم (عبدالعزيز) و(آله) بناء المعالي فاتقوا كل رجّاف ألا إن في (شبه الجزيرة) قوة عزيز علينا أن ترام بأضعاف هي (المعقل) المأمون للعرب كلهم هي (الموئل) المحميّ من كل حياّف لقد تزاحمت القصائد بين يدي الشيخ الأنصاري وانهمرت القوافي تتسابق في مديح الملك عبدالعزيز حتى كأني به يتمثل بيت الحارث بن منصرف: تكاثرت الضباءُ على خراش فما يدري خراش ما يصيد إذ يرى قصيدة جميلة وبعيد قليل يلتقي بقصيدة أجمل ثم يعجبه نص يهيم لروعته وبعيد لحظات يدهشه نص أكثر روعة منه، فهذا شاعر من السعودية وذاك شاعر من مصر وآخر من بلاد الشام يتسابقون في تصوير هذا العلم الشامخ كل يرى من جانبه ملمحاً مشرقاً في شخصية المؤسس يزيده ألقاً ويكسبه بهاءً فانسابت النصوص تسطر ما عجز عنه النثر. فهذا الشاعر والأديب الكبير عباس محمود العقاد تفيض قريحته الشعرية بقصيدة ألقاها بين يدي الملك عبدالعزيز في اليخت الملكي وهو في طريقه إلى مصر وقد وافقت ذكرى جلوسه في الخامس من صفر عام 1365ه وشعره ينبو عن مكانته فإذا نظم جاء مجلياً وقصيدته هذه ذات مطلع متفرد إذ يقول فيها: أسد العرين يخوض غيل الماء يا بحر راضك قاهر الصحراء ثم يقول: حياك باديها وحاضرها معا فأغنم تحية يومه الوضاء يوم من البشرى يردد ذكره ركب السفين وجيرة البيداء يغدق الشاعر العقاد في الثناء على الملك عبدالعزيز ويردف ذلك بالدعاء له بحياة مليئة بالفوز والسعادة كي يحقق برامجه الإصلاحية التي تخدم أبناء المملكة وتسعى لرفعة البلاد وإسعاد العباد: عش يا طويل العمر عيش معمر تحيا به أمم من الأحياء ما خص طالعك الرياض بيمنه بل فاض من عمم على الأرجاء حق المواطن حين يذكر عهده في الحمد والتبريك حق سواء لا غرو نذكره ونهتف باسمه في هذه الآفاق والأجواء وهذا صوت عراقي أصيل يحمل نفحات إبداعية من الشعر العربي القديم فيه من الجزالة ونصاعة العبارة ما يطرب السامع إنه الشاعر عبدالمحسن الكاظمي الذي دوزن في المؤسس (داليته) الشهيرة التي جاوزت السبعين بيتاً وانظر إلى براعة استهلاله وما ينتظر (الوارد) إذا قصد ابن سعود صاحب الروض اليانع الثمار: قد أُتْرِع الحوض فرِدْ وأينع الروض فَرُدْ يا حبذا يوم سرى الركب إلى خير بلدْ تحمله عيرانه تعنق فينا وتَخِدْ سفائن تصدر في السير وفي البحر تَرِدْ كما يمضي الكاظمي في ثنائه المعطر على الملك بأسلوب يحمل الكثير من الحكمة: لا يعدم الفوز المبين من على الله اعتمد على علاه ساهر من أمّن الليل رقد واختتم الأنصاري كتابه بدراسة ملحمة (أحسن القصص) للشاعر خالد الفرج والذي تناول فيها عرضاً صادقاً وجميلاً لتاريخ مؤسس هذه البلاد وأبرز الحوادث والانتصارات دون مغالاة ولا شطح وجاءت في عشرين فصلاً حمل كل فصل موضوعاً خاصاً كما حملت الملحمة براعة الشاعر الفرج في اختيار الصور التي تضيء ألقاً بين الأبيات وانتقاء المفردة التي تخدم النص وتشنف الأسماع: هو هذا فتى وسيم أغر عاش ما بين أهله وهو حر ولدوه إذ المرابع خضر ثم أضحى أبوه والكف صفر نائياً عن بلاده وهي فخر هو عيش لدى الأبيين مر كيف يقضي حياته بمرار بعد ذلك يرسم الفرج لوحات مرابع طفولة الملك التي قضاها في الرياض التي تحولت بعد ذلك وكراً لأعدائه: هو (عبدالعزيز آل سعود) كامن سره بعين الوجود ومخبا ليومه الموعود مثل سيف في غمده مغمود أو كنار الزناد في الجلمود أو كعرف الشذا برند العود والآلي في غامض البحار وأزعم أننا لو عدنا إلى كثير من دواوين شعراء النصف الأول من القرن العشرين لهالَك ما حملته من قصائد حِسان ترصد إعجاب جمهرة من الشعراء بشخصيته الفريدة، والحديث يطول لو قصدت إلى الشاهد والمثل، رغم أن الكتاب لمّ بمدامح طائفة من كبار شعراء العربية ممن قد غالهم الموت أمثال: أحمد باكثير ومحمد السنوسي وحسين عرب ومحمد بن بليهد وأحمد قنديل وعبيد مدني ومحمد بن عثيمين ومحمد العقيلي وفؤاد شاكر وسليم اليعقوبي وفارس سعد وأحمد السهسواني.