عزفٌ من نوعٍ رفيع الشأن يتردد إلى مسامعي كلما مررتُ بتلك القصيدة البهية، بعذوبتها،وعمقها، وترف المعاني فيها.. (أَدِرْ مُهْجَةَ الصُّبْحِ صُبَّ لنَا وطناً فِي الكُؤُوسْ.. يُدِيرُ الرُّؤُوسْ أَدِرْ مُهْجَةَ الصُّبْحِ حتَّى يَئِنَّ عمود الضُّحَى وجَدِّدْ دمَ الزَّعْفَرَانِ إذَا ما امَّحَى أَدِرْ مُهْجَةَ الصُّبْحِ... أيُّ وهجٍ غرسته تلك الكلمات في دواخلنا، وأي بلاغةٍ حاكها الشاعر حين جعل من الصباح شيئًا محسوسًا، وقابلًا للحركة والاستجابة، وأيُّ موسيقى إبداعية عزف بها قصيدته، وطاف بها وبنا في عجائب اللغة، خاطب الزمن بصور بلاغية فاخرة، وحمل لنا فيها فنًا زاخرًا بالصحراء والمدينة، بالغيم والجدب والمطر،حادَث النخل والقهوة والقمر والنجوم والشمس، ناجينا برفقته الطبيعة والأحلام والأوهام، وتساءلنا من خلاله عن كاهن الحي، (تغريبة القوافل والمطر) للشاعر القدير الأستاذ محمد الثبيتي (رحمه الله) قصيدة تعبث بالشعور بجدارة، وتنقل القارئ إلى عوالم من الإبداع، تثير التساؤل، والحلم، والأمل، تحرك الحزن والروح والعاطفة، (سيد البيد) طاف فيها بين اليأس والأمل، وحاك بها الخيوط بين الماضي والحاضر، حمل لنا شعرًا وشعورًا، وخاطب مواطن الذاكرة، نصٌّ موزون، وحبكة فنية، وصورٌ عميقة ما زالت تتجدد عند كل قراءة، فالزمن غالبًا يخطف جمال الأشياء، ولكنه لم يعبث بالشعر، لم يسكب خريفه عليه، لم يضعه في قائمة الأشياء القديمة، بحثتُ مليًا عن الأسباب ولم أجد إلا مبررًا واحدًا وهو أن الشعر لايشيخ، والأدب لا يشيخ، والفن لايشيخ، ثبات الأعمال الأدبية والفنية على مدى العصور والسنوات دلالة حقيقية على الجودة، وعلى الإبداع وعلى أن هناك استدامة للأشياء التي تستحق، لم تضمر تلك الفنون الإنسانية بل تحولت إلى وِجهة قيِّمة للدراسة والاستشهاد والفن الرفيع، لست شاعرة، ولا أقرأ الكثير من الشعر، ولا أملك سوى القليل من أدواته، ولكن قصائد (سيد البيد) ظاهرة شعرية هائلة، ربما لم أصادف زمن كتابتها، وربما قرأتها متأخرًا، ولكن هذا الامتداد الزمني الطويل لقصائده دلالة على ثبات الجمال واستمراره، فهو يكتب بطريقة داعية للتأمل والتحليل والبحث في بحور الشعر، قال مرة عن شعره: (أحاول هز أفنانه اللدنة لتمطر لي الورد والفراشات والسوسن والأصداف وتمنحني الإكسير المتوهج الذي يهب الحب والحياة) وبالفعل لقد هزَّ الشعر بجدارة فأمطر عليه وعلينا لغةً فاتنة، وقصائد متفردة، وفضاءاتٍ رحبة، لقد ارتحلنا من خلاله إلى الصحراء، وصادقنا الشوارع والرمل والمزارع والنخيل والمدينة والمواسم الطويلة، قرأت في إحدى معزوفاته سطرًا موجعًا قال فيه (قصائد الأمس ماتت في حقائبنا)، استوقفني هذا البيت كثيرًا، خاطبت نفسي ليته يعلم أن قصائده حية في ذاكرتنا وواقعنا، وأنها مازالت تفوح بالشاذلية والهيل والزعفران، ومازالت تضيء بالديم والحلم وسهيل، مازالت تتسيد المنابر، والصحف، وأصوات الشعراء، رحل سيد البيد وبقي يعبرنا كقطر الندى، وخُضر الربى، ومهجة الصبح.