أن تشرب الرمل زلالا، وأن تراقص النخل اختيالا، فتحمل من حولك على سؤالك بقولهم: هات الربابة، هات الربابة.. فتلك دهشة لا يجيء بها إلا من أوتي حكمة لقمان وجمال لا يشّرعه إلا من أعطي فتنة يوس. وهي ثنائية ظللت مطية ذلك القادم “بتغريبة القوافل والمطر” عبر “تضاريس” تشكلت من صداقات عدة أقامتها أوراق بيضاء حملها بدوي عاشق مع كل محسوس مر به: أصادق الشوارع والرمل والمزارع أصادق النخيل أصادق المدينة والبحر والسفينة والشاطئ الجميل أصادق البلابل والمنزل المقابل والعزف والهديل في بداية رحلته نحو شهرزاده القاطنة في حلم تهجاه فأورق عطر وصلاة وقلادة أودعها رقيته المكية فوقته بعد الله شر ما يأتي به العابثون الباعثون على النيل من شموخ النخيل وكبرياء الرمل لا لشيء إلا لأن بوابة الريح الحنون فتحت مصراعيها ليقين الثبيتي المبحر بطواعية القوافي له إلى أعماقٍ ملؤها جذور الأصالة والمرتقي بطهارة تسبيحاته سمواتٍ لا يصعدها إلا عرّافٌ فهم الرمل بهمسه ومزارعٌ أنطق أوراق التين فكان امتدادا للشنفرى الصعلوك وفعل لم يفعله حين أثخن الخيل والليل والمعركة ورسم بقلقه الدائم قصائد جمعت شتى المدراس الفنية: هذي الشقوق التي تختال في قدمي قصائد صاغها نبض المسافات وهذه البسمة العطشى على شفتي وحي من الريح وردي العبارات فهرع الناس بوله فطري للقيلولة وتلك الدور التي لا تزال غرفها دون أبواب وأرجاؤها عبقة بالشيح الشمالي والعطر التهامي، كل يؤدي طقوس من النرجس لينال من مدام الموسيقى ما يعنيه على الغناء والرقص مع النخل فتسري من العذوق إلى عروقه دماء الحياة فيرتمي ظله أمامه معانقا إياه لطهارة ما وقع فيه من بياض أوصله لمعانقة الحلم الذي اتسعت به رئة الفصول فغادرت الشمس مغسولة بالريح وماء المطر الشفيف كسنبلة يعبرها صباح صيفي باحثة عن موعد مع القمر لتلقنه أغنية بدوية ارتجلتها صبية سمراء كانت تتلحف بالعشب وشهادات المطر فيغدو الساكن “وضاح” قادرًا على قراءة أحزانه عاملاً على الاستيطان في رحم الغيب مخاضًا لفجر تقي يكفكف وجع الريح ويستمطر تداعيات الأمل المخنوق في دمنا فيصبح جفاف الصمت والنسيان أزلية الإلهام ونبضًا لا يشيخ ولا تموت بشطه الأحلام حتى تلك الخطوات التي ترتعش في انحنائها ستبدل وجله سلاما وتسابق النخل والجرح النازف فلا يقلق شوق ولا ينهار ربيع فالرجاء ليس خرافة تمنحها كف الأفلاك والظمأ الذي يمزق الثوب ويداوي العشق بالكي يغرس خصبه في وجه المدينة فلا يجف حياؤها ولا يتوه الباحث عن قِبلة العشق فسرب القطا يطوف بالشوارع ومهجة الصبح تهب الشاذلية للنساء العاديات لقهوتنا المرة المستطابة. فمن ذا يغني؟ وهلالاً راقص اللون على وجه المساء الطفل لا ينوي الأفولا رسم الشوق على أهدابه لغة عليا وعمرًا مستحيلا وعلام تترك البطحاء في شغف لرقصة يشرأب إيقاعها في صدر المدى الذي حمله الثبيتي ليشق أحشاء الثواني وكأن للأرض مخاضًا وانتظارًا لحبيب حتى القرية المستترة بثياب المساء تهز شجر الريحان ليعلوها من هطول البنفسج وقلق الفيروز وهجٌ فتشرق من اللامكان واللازمان لارتجال غيمة تنطلق من الساعة المقفلة لباحة من برزخ الضوء مكحولة باللقاء دون غبش يقوم على قدمين أو قدم واحدة: أتيت أركض والصحراء تتبعني وأحرف الرمل تجري بين خطواتي أتيت أنتعل الآفاق أمنحها جرحي وأبحث فيها عن بداياتي وتلك لعمري أغنية تعبر هذا الفضاء مزهوة عن غيرها بلحن احتوته صدور الطير فشدت مبكرة فاشتعلت القُبل على كل أبواب الهوى وغدا التيه يرتوي من وريده وكان لوجوه الصباح إشراقة اغتسلت بجرأة عرّاف الرمل فعلا محياها من حياء المدن وأصالة القرى شرودٌ أبيضٌ ما وجدت العيس بدا من مشاركة الملامح نشوتها بالغناء: مطرنا بوجهك فليكن الصبح موعدنا للغناء حتى تُقرَع الأجراس فتخبو الريح في حِجر طفولة تاركة عصيانها الفطري لبقايا خجولة ترغب في الحداء علّها تجد حيّزًا في الوجود الرحب يطعمها المن والسلوى ويلبسها ياقوتا محتدما بعافية الخليج. ولن يكون لها ذلك إلا حين تجهش باللحن اللذيذ بعد أن تتشابك بداخلها المدن والرمال والنخل والقيظ والقوافل والشاذلية فتلقى وطنها المنشود وهويتها الإنسانية العطوف فيرسو جنون شوق الرحيل ويغادر الانتظار الحقائب التي ملته. فيا سيد البيد هل في سباتك من نبأ القوم إذ أودعك بجوف الليالي صلاة ترف على شرفات سريرك الأبيض وتلقي عليك تمائمك وقصائدك الأولى: ويا سيد البيد أنا انتظرناك حتى صحونا على وقع نعليك حين استكانت لخطوتك الطرقات وألقت عليك النوافذ دفء البيوت فكيف تموت ! وكل النسور التي وشمت دمك الطفل يومًا تموت وأنت الذي في قلوب الصبايا هوى لا يموت فعد للرمال وعد للعذوق، وعد نحو كل الصداقات التي غسلت وجهنا بالرحيق فكل النهارات يا سيدي في انتظار ضفتها الأخرى وكل المدن ترتجيك صدى يكسر الصمت ويغتال بؤس القصيدة يوم تغيب عنها شذاك. ومن للوطن في عيون الصبايا يرتب بأجفانهن الوعود؟ وأين النشيد الذي يحيل هموم الغجر فاتحة من عبق؟ وبشراك بشراك يا (معن بن زائدة) ف(حاتم طي) لم يتنكر لذاك ال(تعارف) وأهدى الوجود ربيع حروفك وخضرة صوتك فارتوى هلام المسافة وسرمد السير فكان للحرير زهوه وللشوق عربدته وعادت الزنجية الشقراء لتهبط في ثوب من الرعب البديع. فلله ما أنبل أهل طي ويا سعد دربٍ تفيء وجهك وسار بخطوك متشبثًا بأطراف عنبرك يدعو: سلام عليك سلام عليك فما زال في الحلم تلويحة للمطر (*) عضو مجلس إدارة نادي الباحة الأدبي