من المؤكد أن المقاهي القديمة في جدة كانت جزءاً لا يتجزأ من الحياة الاجتماعية والثقافية، حيث مثّلت ملتقى يجمع المثقفين، والشعراء، والتجار، وكافة شرائح المجتمع من سكان المدينة وزوارها. ولم تكن هذه المقاهي مجرد أماكن لتناول المشروبات فحسب، بل كانت فضاءً ينبض بالحياة، يجمع بين التواصل، والتسامح، وتبادل الأفكار والخبرات، مما جعلها تلعب دوراً مهماً في حياة الناس آنذاك، ولا يمكن الحديث عن المقاهي القديمة دون التطرق إلى نظامها الفريد المعروف ب»المراكيز». كان هذا النظام يعتمد على تصميم بسيط وعملي للمقاعد، حيث يتكون المركاز من مقاعد مستطيلة أو كراسي مصنوعة من السعف والحبال المترابطة بأسلوب متناسق يتسع لشخصين أو ثلاثة. أضافت الكراسي الخشبية المفردة لمسة من البساطة العملية، مما جعل الأجواء دافئة ومريحة. وبالتأكيد، لا ننسى الحرفيين المهرة الذين أبدعوا في صناعة كراسي السعف بتصاميم متقنة وجذابة. ولأن التفاصيل الصغيرة تُحدث فرقاً، كان يُوضع أمام كل مركاز طاولة خشبية مميزة مزودة بفتحة «ثقب» مخصصة لجرة الماء، مما يُظهر البساطة والابتكار في آنٍ واحد، كانت القهوة والشاي تُقدَّمان في أباريق ذات أحجام مختلفة تُصنَّف حسب عدد الفناجين «البيالات» التي تتسع لها، مثل الأباريق الصغيرة التي تسع لأربعة بيالات شاي، وتُسمى عندهم «أسود»، أو ستة، أو حتى ثمانية، مما يُضيف إلى أجواء المقاهي لمسة تقليدية حجازية أصيلة. ولا يخفى أن المقاهي في جدة القديمة لم تكن تقتصر على تقديم القهوة والشاي فقط، بل كانت تقدم أيضاً القهوة المرة، وقهوة القشر التي تُعد من أشهر المشروبات التقليدية في المنطقة. وبينما كان الزبائن يحتسون مشروباتهم، امتلأت المقاهي بأجواء مميزة، حيث تجمع الناس على الكراسي الخشبية التقليدية (المركاز)، لتبادل الأحاديث والاستمتاع بالألعاب الشعبية مثل: البلوت، الضومنة، والطاولة. ومع أن الأصوات الصاخبة الناتجة عن النقاشات وضحكات اللاعبين كانت تملأ المكان، إلا أن تلك الضوضاء شكلت جزءاً من السحر الخاص الذي لا يمكن نسيانه. جدة في الماضي كانت تزخر بالمقاهي الشعبية التي شكّلت جزءاً أساسياً من الحياة الاجتماعية والثقافية، وكانت لكل قهوة طابعها الخاص وروّادها المميزون. وذكر لي الصديق أحمد الغامدي، عن عمه عبدالله من كبار السنّ مرتادي المقاهي قديما ، معلومات قيّمة عن أسماء ومواقع عدد من المقاهي القديمة، ومنها قهوة حسنين شيخ القهوجية، وكان حامد حسنين يُعتبر من أشهر مشايخ القهوجية في القرن الماضي، حيث كانت هذه القهوة مقصداً للكثير من الزوّار الذين يستمتعون بأجوائها التقليدية. قهوة الجمالة «أبو القعور» تقع شرق عمارة الشربتلي، وآلت لاحقاً إلى «سليمان حمدان أبو سبعين»، الذي اشتهر ببيع الجبن والزيتون تحت القهوة، إلى جانب تقديم حلاوة العيد في مواسمها. قهوة علي يني، عند باب البنط بشارع الملك عبد العزيز، كانت ملتقى للبحارة الذين يجتمعون لتبادل الأحاديث والاسترخاء في أجواء أصيلة. كذلك قهوة الصعيدي تقع جنوب شارع التحلية، وقد تأسست في عام 1977م، وكانت من المقاهي الشهيرة في تلك المنطقة، حيث شكلت ملتقى لمحبي القهوة والشاي. وقهوة بشيبش خارج سور جدة بالقرب من باب مكة ومكاتب الزاهد القديمة، وكانت تتميز بموقعها الاستراتيجي الذي يجذب التجار والعاملين في المنطقة. قهوة البرج تقع عند الكيلو 9 على طريق مكة القديم، وافتتحت عام 1975م، وكانت وجهة للمسافرين الذين يتوقفون للراحة وتناول المشروبات أثناء رحلاتهم بين جدةومكة. وأضاف الغامدي، مؤكداً على قدمها، بعض أسماء المقاهي القديمة في جدة، ومنها قهوة الزقرت عند باب مكة، وقهوة الكيادي في حي الهنداوية، وقهوة القزاز في سوق البدو، إضافة إلى قهوة الشاذلية التي كانت مقراً لتجمع المثقفين والفنانين في تلك الحقبة. وهناك عدد من القهاوي لا تحضرني أسماؤها الآن، لكن من الطبيعي أن يحاول الكثير من المقاهي الحديثة في جدة استلهام روح المقاهي القديمة، من خلال تصاميم تجمع بين الماضي والحاضر. في مدينة جدة التاريخية، استعادت بعض المقاهي ملامح الزمن الجميل بتصاميمها التراثية وأجوائها الدافئة. في هذه المقاهي، يجد الزائر نفسه محاطاً بديكورات تعكس الرواشين الخشبية والأواني النحاسية، مع تقديم المشروبات الحجازية الأصيلة التي تُعيد ذكريات الماضي بروح عصرية، لا بد أن نؤكد أن المقاهي القديمة في جدة لم تكن مجرد أماكن لتناول المشروبات، بل كانت شاهداً حياً على أصالة الثقافة الحجازية وعمقها الاجتماعي. استمرت هذه الروح في المقاهي الحديثة التي حافظت على التراث بأسلوب معاصر، لتبقى رمزاً لتاريخ جدة العريق ونمط الحياة الحجازي الأصيل. المقاهي وجهة المثقفين والتجار في جدة التاريخية