الإنسان اجتماعي بطبعه كما يقول ابن خلدون في مقدمته، أي أنه فطر على أن يعيش وسط الناس لا بعيداً عنهم، ويقيم بينه وبينهم علاقات اجتماعية وحوارات ويكون بينهم تبادل زيارات واجتماعات، وفي بلادنا عرف إنسان هذه الأرض منذ القدم الاجتماع بإخوانه وجيرانه وأبناء حيه وبلدته، وصار بينهم أُلفة ومحبة وترابط اجتماعي، ففي الماضي القريب كانت الأسواق الشعبية والبسيطة تجمع الناس ليجلسوا مع بعضهم لتجاذب أطراف الحديث ويطرحون همومهم ومشكلاتهم ويبثوا تجاربهم ومواقفهم المتعددة بين الطرافة والاستفادة، كما كانت جلسة «المشراق» وهو مجلس شتوي تحت جدران بيوت الطين يستقبل أشعة الشمس في أول ساعات النهار حيث يتوافد إليه كبار السن خصوصاً لطلب الدفء الذي تجلبه أشعة الشمس، ويقضون فيه الساعات في تجاذب أطراف الحديث، وفي منطقة الحجاز يجتمع الناس في مكان يطلقون عليه اسم «المركاز»، ومن أشهرها مركاز العمدة -أي عمدة الحي- الذي يستقبل فيه المواطنين لقضاء حوائجهم ويصغي إلى ما يجري من حوار بين الحاضرين حيث يدلي بدلوه في حل بعض مشكلات الحي العارضة. مجلس القرية ومن أمكنة الجلوس في غالب البلدان والقرى قديماً «مجلس القرية» الذي تتناثر فيه المحال التجارية على بساطتها قديماً، فقد كان من يريد شراء أو بيع سلعة يتوجه إلى المجلس لهذا الغرض، كما يتوجه إليه من يجد وقت فراغ، فيجلس إلى أحد أصحاب الدكاكين ويمضي الوقت معه في الحديث ويطلع على أحوال السوق، وقد يعود إلى بيته بعد أن يشتري بعضاً مما يجلب في السوق من حطب أو ماشية أو منتوجات زراعية أو غيرها من السلع التي يجلبها أصحابها، كما تسمى الجلسات في بعض المناطق ب»القهاوي»، وهي مجالس بعض الميسورين من أصحاب الجاه حيث يكون لهم مجلس يستقبلون فيه أهل الحي فيستضيفونهم ويقدمون لهم القهوة، وهناك من الناس من اتصف بالكرم فتراه جعل من مجلس بيته مكاناً للالتقاء بالأصدقاء أو أهل الحي الواحد فتجد باب مجلسه مفتوحاً على الدوام، ففي كل بلدة عدد من المجالس التي تشتهر باستقبال الناس، فترى البعض عندما يلتقي بصاحبه يقول: «مشينا إلى قهوة فلان لنلتقي بالأصدقاء هناك»، وبعد تطور الحال وظهور السيارات ظهرت «القهاوي» وهي مكان استراحة المسافرين في أطراف البلدان، حيث بات العديد من الناس يقصدها للجلوس فيها للالتقاء بأصدقائه ويتناولون فيها المشروبات الغازية والشاي والقهوة، كما يتعرفون على أحوال المجتمع المحيط بهم ويحصلون على آخر المستجدات من السائقين حين استراحتهم من عناء السفر الذي كان منهكاً عبر الطرق الترابية قبل ظهور الأسفلت كوقوع حادث أو هطول أمطار أو غيرها من الأخبار، كانت هذه الجلسات تعج بالكثير من روّادها على اختلاف أعمارهم وثقافاتهم وطبقاتهم الاجتماعية، حيث يجمعهم طلب الأنس وتمضية الوقت في تجاذب أطراف الحديث عن همومهم الحياتية اليومية، وما يشغل بال الناس من أحداث اجتماعية أو سياسية، حيث يغلب على كل جلسة حديث خاص، فجلسة التجار تتناول ما يستجد في عالم التجارة كأخبار السلع ومورديها وقيمة كل سلعة حديثة، وكذلك الحال لجلسة من يغلب عليهم العمل في الزراعة أو في أي حرفة فتراهم يبثون بعض همومهم اليومية ويعطون تجاربهم لمن يسأل في هذا المجال. وانتهى المشراق وفي وقتنا الحاضر تبدلت الأحوال بعد أن توسعت المدن وتطورت وظهرت البيوت الجديدة من الفلل السكنية المتباعدة، ومحت معها العديد من أماكن الجلوس الجميلة ك»المشراق» و»القهاوي» و»المركاز»، وبعد توسع المدن وانتشار الأحياء الجديدة والمنازل الحديثة من «الفلل» التي كان تصميمها موحداً في تخصيص غرفة كبيرة لجلوس الضيوف من الرجال وغرفة أخرى لجلوس الضيوف من النساء وتخصيص أخرى «مقلط» لتناول الطعام عند حضور الضيوف للمنزل، وصارت هذه المجالس مكاناً محبباً للجلوس في الزيارات بين الأهل والأقارب والأصدقاء، وتبدلت هذه الجلسات في عصرنا الحاضر بالمقاهي العصرية التي تجمع بين الهدوء والاسترخاء بديكوراتها وأضوائها الخافتة وأثاثها المريح والمرتب، إضافةً إلى الاستراحات التي تقتصر على عدد معين من الشباب والكبار حيث تتصف ب»الشللية»، أي أن كل مجموعة من الناس باتت تمثل «شلة» تجتمع في مكان معين بمسمى «استراحة» للقاءات اليومية، وبذلك هجرت مجالس البيوت وباتت تستقبل الزوار في المناسبات الرسمية فقط في الأعياد أو الأفراح أو الأتراح. بيع وشراء ومن الأماكن التي يجتمع الناس فيها قديماً وتحتضن جلساتهم «المجلس» وهو سوق كل بلدة، والذي يعد القلب النابض لها بما يضمه من محال تجارية متناثرة على جانبيه، وهو في الغالب يتوسط البلدة، ويعد مكان البيع والشراء، فيلتقي فيه الناس ويجلسون في جنباته، فمجموعات متحلقين أمام أحد المحال التجارية التي تزاول البيع والشراء منذ شروق الشمس، فيتبادلون الحديث ويتعرفون على الأخبار وأحوال السوق، كما يجدون في جلوسهم متعة لرؤية الداخل والخارج من القرية أو الزائرين، كما يجدون فرصة التسوق مما يجلب إلى السوق من سلع والتي كان جلها من الحطب والماشية والسمن والأقط وبعض المنتوجات الزراعية كالتمر والخضار وغيرها من السلع البسيطة، وقد تشهد جلسات السوق بعض المكاتبات لتوثيق البيوع مما يغني عن جلب الشهود لوجود كثير من المعارف من رواد السوق، كما لا تخلو جلساته من «العيارة» -أي المزاح-، حيث يتم في هذه المجالس تداول العديد من المواقف الطريفة وعمل بعض المقالب لبعض رواده طلباً لتسلية والترفيه في حدود الأدب والتسامح، ومن المجالس التي يجتمع الناس فيها جلسة القاضي في مكان قريب من بيته، حيث يجتمع إليه في المساء الناس ممن يطلب الفتيا أو يأتي بخصم له ليقاضيه أمام القاضي، ولكن يغلب على هذه الجلسة الجدية فتجد من يجلس فيها يستفيد علماً ودراية بالأحكام. محطات واستراحة وبدأت معرفة الناس للمقاهي في بلادنا مع بداية ظهور السيارات وكثرتها، حيث انتشرت سيارات النقل بين المدن والتي كانت أساساً لنقل البضائع بين المدن ومن ثم المسافرين، فتم إنشاء المقاهي لخدمة المسافرين حيث تكون محطات استراحة للسائقين والركاب حيث يلقون فيها العديد من الخدمات كبيع المواد التموينية والحطب واللحم الذي يبيعه القصابون والبنزين، إضافةً إلى بيع قطع غيار السيارات، وكذلك الشاي الذي كان يقدم في أباريق مع «بيالات»، وهذه الأباريق مقاسات، ففيه أبريق الشاي «أبو أربع» -أي بسعة أربع بيالات- وكانت قيمته ربع ريال، وأبريق «أبو ستة» و»أبو ثمانية» بنصف ريال، وأبريق «العلاق» وهو أكبرها بريال، فتجد المسافرين عندما يصلون يتوزعون على كراسي القهوة فتتشابك أصواتهم ومناداتهم لعمال القهوة فلا تسمع سوى: «براد أبو أربع» هنا، والآخر يقول: «براد أبو ستة»، وهكذا، فقد كان للشاي طعم مميز في تلك الفترة ومذاق خاص يستهوي الجميع، إضافةً إلى خدمات الغرف بالقرب من المقاهي، وهي مخصصة لراحة المسافرين المتنقلين بين المدن والقرى وتؤجر الغرفة بالساعة أو اليوم وبأجرة قليلة لا تتعدى الريال في اليوم، وبعد ذلك تم افتتاح عدد من المقاهي في المدن الكبرى، ويعد مقهى الزهور لابن عبدان أول مقهى في الرياض، ويقع في ميدان وزارة العمل، وافتتحه الملك سعود عام 1374ه كما ذكر ذلك الزميل منصور العساف، كانت المقاهي ملتقى شريحة كبيرة من الناس وخصوصاً من المثقفين، ومن أولها وأشهرها على وجه الإطلاق في الرياض «قهوة العويد» ويؤمها الرياضيون، والصحافيون، والكتّاب، بالإضافة إلى «مقهى الغرابي» الذي يجمع المسافرين وبعض عامة أهل الرياض ومنه تنطلق «التكاسي»، وبه يجتمع أصحاب «الكدادة» بسياراتهم، إضافةً إلى مقهى «مروان» على طريق المطار القديم، ومقهى «المربع» في شارع الوشم، وكازينو الرياض الذي تأسس في مطلع الثمانينات الهجرية. شبه نادر وفي عصرنا الحاضر ودّع جيل اليوم الالتقاء في مجالس البيوت، حيث أصبحت خاوية من روادها وباتت فقط للمناسبات الرسمية كالأعياد أو الأفراح كعقد قران أو مناسبة تخرج أو استقبال مولود، فبات الالتقاء في مجالس البيوت شبه نادر، حيث استبدل جيل اليوم ذلك بالالتقاء في الاستراحات التي تستأجر بالعام من قبل مجموعة منسجمة من الأصدقاء أو بالإيجار اليومي عند رغبة البعض في التواصل، كما أن المقاهي أصبحت المكان المفضل للالتقاء بالأصدقاء بعد انتشار المقاهي في كل مكان في كل مدينة ومحافظة وبلدة وتهيئتها من أجل الراحة بما تقدمه من أفخر أنواع القهوة العالمية بالإضافة الى القهوة السعودية بجانب أنواع متعددة من الشوكولاتة وأنواع الكيك والمخبوزات، وربما كان في بعضها يقدم وجبات خفيفة ومشروبات باردة وعصائر، وتجد هذه المقاهي على مدار الأسبوع إقبالاً كبيراً من كافة شرائح المجتمع. حارة الماضي لقاءات لا تتوقف جلسة المشراق قديماً المركاز جلسة اشتهرت بمنطقة الحجاز اليوم أصبحت اللقاءات في المقاهي الحديثة منازل اليوم قلّت فيها لقاءات الأسر والأصدقاء إعداد: حمود الضويحي