مر يومان في حائل على نفس البروتكول وكان المستشرق والدبلوماسي الهولندي مارسيل (مرسال الشمري) كان متلهفا الى نزول الميدان كما قال ومرافقه الجريفاني لا زال حائرا إذ يكاد لم يبقى بدو أقحاح ورعاة فغالبية الرعاة باتوا من الاسيويين وافراد قبائل حائل استقروا عشائر في مدن وقرى حديثة وفي هذا الوقت من السنة حيث هطلت أمطار الربيع تكون قطعان الابل على الحدود السعودية شمالا مع الأردن على بعد مئات الكيلو مترات، كان مارسيل يريد البحث عن حياة عربية حقيقية في الصحراء ولكن المنظمون أرادوا كما يقول ربطه بمآدب غداء وعشاء وسفرات الى المتنزهات والمعالم الحديثة لأنهم يرون أن هذه هي الطريقة التي تليق باستقبال الدبلوماسيين. في المساء اتصل به هاتفيا مدير العلاقات العامة ليسأله ان كان راضيا على مرافقه قال نعم ولكنه يريد أن يذهب لرؤية البدو رد مدير العلاقة لا ضير سيحدث ذلك قريبا. وفي صباح الجمعة أخذته من الفندق سيارة لاند كروز ذات هوائي طويل لجهاز الارسال يقودها (مطوع) كما يقول وهو ثعلب صحراوي قديم يعرف شاعر الجبلين من أيام عملهما معا في حرس الحدود. جلسوا ثلاثتهم باسترخاء في المقعد الامامي وما لبثت أن انطلقت أغاني الجمالين تصدح في أذن الهولندي ذات اليمين وذات الشمال. كان هدف الرحلة قنا وهي كما قال قرية في النقود ساروا لها فوق قمة تل رملي وفجأت انداحت في حوض منخفض واحة مترفة – نخيل وحقول محروثة وبساتين – كأنها بقعة خضراء قاسية من الدهان وسط الرمل الأصفر الضارب للحمرة. وعلى شرفة الامارة أو دار البلدية المطلي بالأبيض البراق والمغطى بالسجاد الفارسي استقبلهم أمير او شيخ القرية وبمساعدة رفوف تحول جانب من الحائط الى خزانة لعرض عشرات من الدلال النحاسية ذات الاعناق الطويلة. وفوقهم كانت ثريتان تتحركان حركة بالكاد تكون محسوسة في النسمة الخفيفة التي تحدثها المراوح السقفية. وإذ اتكأوا على الوسائد المرصوفة على امتداد الجدار نظروا من فوق قمم النخيل والتلال الرملية التي اختفت في زرقة السماء الاثيرية كأفق البحر في يوم رائق ضبابي. مكان الجلوس في الامسيات بعد رحيل آخر الضيوف وإطفاء الانوار. ولاقتفاء أثر الدب الكبير في اتجاه الدب القطبي حينها تطلعوا شمالا عبر النفود. شيئا فشيئا امتلأت القاعة بسكان البلدة وقاطني التلال الرملية. وصل الشاعران البدويان كما يقول حميدي المغيليث ومحشم الجهيلي وبدآ القاء القصائد استمع الهولندي مندهشا الى سيل الكلمات المتدفقة من حناجرهم بسرعة البرق وبصوت جهوري عال. لم تفلح مجاهداته الداعية للهدوء والتقليل من السرعة في القاء القصائد حتى يستوعب الكلمات بسبب ضعف فهمه لبعض المفردات البدوية. وما ان انتقل الشاعران الى وتيرة ابطأ حتى فقدو حسب فهمه رأس الخيط وبدآ يخلطان نتفا من القصيد، وهنا يقول من الواضح انهما حفظا قصائد اجدادهم غير المكتوب في الذاكرة كتلة واحدة ذات إيقاع محدد. وهما الان (في مقدرته) لا يستطيعان الا الغناء كأسطوانة قديمة سرعتها 78 دورة في الدقيقة. لذا اقترح الضيف تسجيل القصائد برمتها على اشرطة كاسيت ومن ثم اسماعهما القصائد لتوضيح بعض المفردات التي يجهل معناها. في غضون ذلك دارت القهوة ورفع الغطاء الزجاجي الذي كان يحمي صحون التمر المهروس وغمست قطع التمر في صحون مليئة بزبد وسمن الضأن العربي. التمور المقطوفة كما يقول من واحاتهم ذاتها كانت تذوب كالعسل على اللسان. ومع اقتراب صلاة الجمعة اسرع الجميع للمسجد الجامع. كان الشباب بصفة خاصة يعتزون اعتزاز غيور بالدين. وهو من دون ريب نتيجة الحقيقة الماثلة في ان غذاء جيل كامل يتكون الآن ولأول مرة في تاريخ البلاد من اعمال إسلامية (متتزمته) أحيانا يتعلمونها في المدارس والمساجد، أحد أبناء القرية الصغار انتحى بالضيف الهولندي وقال: هل ترى تلك الكثبان الرملية هل ترى تلك السماء والشمس والزرع؟ قاطعه الضعيف: نعم.. نعم.. اعرف ماذا تعني إن الله خلق كل هذه الأشياء لينعم بها الانسان. على اقل تقدير إذا تصرف الانسان كما يليق بمؤمن حقيقي، ليس لدي مشكلة مع ذلك لكني مسيحي بروتستانتي كما تعرف ولست واحدا من الكاثوليك فنحن نوع من السلفيين الذين يعلنون ان الله واحد لا شريك له والفارق الوحيد بيننا أننا يوم الحساب يقودنا المسيح ونعتمد على شفاعته وانتم يقودكم محمد صلى الله عليه وسلم ليشفع لكم. طالب كان يمضي عطلته المدرسية في قنا اعترض قائلا: إن محمداً صلى الله عليه وسلم هو خاتم الأنبياء وأكملهم وذهب الى ان لاعذر بالمرة لمسيحي الا ان يشهد ان لا اله الا الله وان محمدا رسول الله. ( يتبع) كمار الدلال التمر وسمن قطعان الإبل في وسط النفود