بداية يقول المستشرق والدبلوماسي الهولندي مارسيل بأن الصحراء العربية التقليدية هي ذلك الجزء من عمق الجزيرة العربية الذي رسمت معالمه وتضاريسه أول مرة في القرن التاسع عشر على ايدي مستكشفين غربيين وكان داوتي وآخرون من رواد الصحراء شدوا الرحال جميعا عبر البادية السورية وكثبان النفود الكبرى الى العاصمة الشمالية حائل. وهناك استقبلهم آل رشيد أمراء قبيلة شمر ولم يذهبوا ابعد فلقد قطع طريق الجنوب السلفيين في الرياض الذين كانوا لا يريدون أي اتصال بمسيحيين متطفلين لذا كان غالبية الرحالة يتوجهون من حائل شرقا نحو العراق على امتداد طريق الحج أو يتجهون غربا نحو البحر الأحمر. وأول أوروبي تمكن من السفر بلا معوقات عبر قلب الجزيرة العربية كان فيلبي الذي اعتنق الإسلام وكان حلم فليبي أن يفتح أكبر صحراء رملية في العالم (الربع الخالي) ولكن عند ما حصل أخيرا على موافقة الملك عبد العزيز للرحيل أصيب بأكبر خيبة أمل في حياته حيث أن انكليزيا آخر هو توماس سبقه الى ذلك في اللحظة الأخيرة. وكانت الجزيرة العربية الصحراوية لا يعوزها السعادة فهي ارض مترامية الأطراف قليلة السكان تمضي في طريقها هادئة لا شيء يعكر صفوها بعد حكم الملك عبد العزيز وغير مبالية بالركض المحموم وراء التحديث المادي في الرياض والقصيم وعلى ساحل الخليج بمنأى من الغليان السياسي في الشرق الأوسط، ليست هناك صناعات بالمرة ولكنها ليست فقيرة حيث عائدات النفط قد بدأت توجه الى هذه المناطق النائية بمقادير كافية لتحقيق نمط لطيف من الرخاء من دون ابتذال أو ثراء فاحش. عاصمة هذه المنطقة هي حائل وبالمعايير السعودية عندما زارها مارسيل سنة 1988م فإن للمدينة سحرا رعويا خاصا. فبادئ ذي بدء كما وصفها فحائل نظيفة نظافة مدهشة. حاكم المدينة الأمير مقرن بن عبد العزيز يتكفل شخصيا بالا تترك ورقة قصاصة واحدة مرمية في شوارعها وأن تفوز حائل بالجائزة السعودية لأنظف مدينة عاما بعد آخر. وبفضل ارتفاعها فوق مستوى سطح البحر فإنها ابرد بضع درجات من الرياض في الصيف. وهناك بعض المتنزهات المتميزة والتي من سماتها خرير الماء. ومنطقة العمران تشكل دائرة متراصة نوعا ما تستظل على نحو خلاب بهضبة جرداء من الحجر الأحمر والأسود هي جبل أجا وينتصب هذا النتوء الصخري الوعر الذي يمتد مساحة تبلغ 2500كم مربع حاجزا من الجرانيت بين حائل وصحراء النفود الكبرى. ومع جبل سلمى الى الجنوب قليلا تكون هذه الجبال الوحيدة الجديرة بالذكر التي ترتفع فوق السهل في حدود دائرة نصف قطرها مئات الكيلو مترات وهي المكان الوحيد الذي نجا فيه عدد من الوعول الجبلية من مجزرة الطرائد على ايدي السعوديين من هواة الصيد. ويضيف مارسيل بأن الأمير مقرن منحه أذنا بالتجوال لدراسة أوضاع البدو في الفلاة العربية القديمة. قائلا: في البقعة التي يلوح فيها جبل سلمى بعيدا عن المناطق الزراعية أوقفت سيارتي الجيب امام مطعم على جانب الطريق وهنا كانت تبدأ الصحراء الحقيقة. استنشقت الهواء العذب ملأ رئتي ونظرت الى اشواك زرقاء في قدمي وأجمات العشب الخضراء الحائلية التي تكسو السهل على امتداد الأفق. وفي الهواء الطلق مدت صفوف من المصاطب المعدنية الطويلة بمقاعد ومساند من الحبال المجدولة بجانب موائد ذات طلاء اخضر واحمر. يخلع الزوار صنادلهم ويرفعون أنفسهم ثم يجلسون قبل ان يطلبوا صحونا من الرز والدجاج ولحم الإبل والبيض والطماطم والسلطة وبعد أن يأكلوا حتى الشبع يحين الوقت لأحلام اليقظة الكسولة أمام نرجيلة على البساط والاستلقاء على المساند. في الشتاء يجلس الرجال في الداخل وإذ يلتمون في عباءاتهم البنية منكفئين تحت حطات الرأس. اثنين حول كل مائدة في الغالب ينقضون صامتين على الطعام. وخلف المطعم هناك مكانا للمرافق الصحية. المكان كله محاط بأنقاض سيارات وبراميل فارغة وصفائح صدئة ونفايات لا تلبث أن تجف وتتداعى وسرعان ما تدفنها الرمال لذا ليست هناك ابدا أي زبالة والمكان كله يوحي بالراحة والبهجة ولا سيما في الشمس المعتدلة لمطالع الربيع. خلف المطعم تقف شاحنات أصحابها البدو من رواد المطعم بعضها محمل بالحطب وبعد الاكل يغتسلون من صنبور عنده علبة برتقالية من منظف تايد. الطعام دائما طيب ومغذي وبعض المطاعم حفر من تشوى تحتها ماعز واغنام كاملة على جمر متوهج. ويختم قائلا: في هذا النوع من المطاعم امتعت بساعات لا عد لها من ذلك الشعور بالتحرر من الأعباء الذي ينتاب المسافر. الطريق يمتد مئات الكيلو مترات حيث يمر اللوري هادرا وعلى الجانبين سهوب لا متناهية تتخللها اجمات من الزرع وعلى مبعدة قطعان من الإبل والغنم وفي السفح يلوح الخط الأسود لخيمة بدوي محاكة من شعر الماعز. (يتبع) أهلاً بكم في حائل الصحراء جزء من عمق الجزيرة العربية