لم أكن أعرف أن هناك مشروعاً رائعاً يجوب العالم باسم المملكة وبجهود أبنائها أخذ المسار الديني الثقافي الإنساني السياحي، قبل أن ألتقي الوفد القادم من ثلاثين دولة من العالم من المسلمين حديثي العهد بالإسلام في بيت ناصيف بجدة التاريخية يدير المبادرة (عمرة العالم) المهندس أحمد الرماح. مائتا شخص من الرجال والنساء قدموا ضمن مبادرة عمرة العالم ليقضوا بين الحرم المدني والمكي وجدة والطائف والمناطق المحيطة أسبوعان؛ لا يؤدون شعائر العمرة فحسب بل هناك جدول ثقافي حافل إلى المناطق التاريخية والتعريف بجهود المملكة وأبنائها البررة في إرثهم الذي توارثوه لخدمة زوار بيت الله الحرام ومدينة النبي الكريم، ثم جولة سياحية ترفيهية يتعرفون من خلالها على جديد المملكة والسياحة فيها ويرون بأنفسهم ملامح رؤيتها وأثرها. لقد أيقنت أثر القوى الناعمة كيف تجعل من هؤلاء سفراء للمملكة في أوطانهم، ودعاة للإسلام بين أقرانهم، فالثقافة هي الطريق الأقرب والواجهة الأوضح والمرآة الصادقة للمجتمع والأوطان. لم أكن زرت جدة التاريخية بعد جديد الرؤية وبعد جهود وزارة الثقافة فيها كما جهات أخرى جعلت منها متحفاً مفتوحاً ومكاناً ساحراً لأصالة الماضي، وبوابة يعبر من خلالها أهل جدة إلى المستقبل الذي يبتسم لأصالتهم وحفاظهم على إرثهم وثقافة المكان والإنسان. طرح وفد عمرة العالم كثير من الأسئلة عن عدد من مبدعي المملكة الذين سمعوا أو قرؤوا ترجمات لهم ورغم اختلاف ألسنتهم إلا أن الترجمة وحضور المثقف السعودي في مناسبات مختلفة في الخارج عرف به وبثقافة وطنه. لي مع مبدعي جدة الكثير من الحكايا.. الروائي الأديب عبدالله الجفري -رحمه الله- الذي ألوح له بكف القلب كلما زرتها، المبدع المحلق دائماً عبده خال.. ورائدة الفن التشكيلي السيدة صفية بن زقر التي غادرتنا قبل أسابيع تاركة سيرة ومسيرة.. و د. عبدالله مناع المولود في حارة البحر صاحب عمود صوت البلاد -رحمه الله-، ثم الفنانة السعودية ابتسام لطفي أولى الفنانات السعوديات والتي ظهرت في الإذاعة السعودية، وكثيرين غيرهم من المبدعين الذين انطلقوا من المحلية للعالمية ومن اهتمامهم بتفاصيل تراثهم الذي كان بمثابة جواز سفر للآخر. جِدّة البحر، وجدة التاريخ، ميناء البشر والبضائع، بوابة مكة ورئة السياح ونادي جدة الأدبي الذي بقي علامة فارقة على خارطتها الثقافية. اثنينية عبدالمقصود خوجة التي منحت كثيرين إطاراً لجزء من كسوة الكعبة المشرفة كتذكار ثمين، جدة التي احتضنت عدداً من المثقفين القادمين من أصقاع المعمورة الذين تبنّتهم كما أبناؤها ثم صارت وطناً لهم مثل عبدالفتاح بن مدين -رحمه الله-. في جدة كان ميعادنا وما أجمل اللقيا بلا ميعاد، حيث ظلّلتنا الشجرة الوارفة على باب نصيف أحد الشواهد على النمط المعماري القديم في جدة والذي اعتبر قصراً للضيافة حيث نزل فيه عدد من الملوك والرؤساء على رأسهم الملك عبدالعزيز الذي أقام به عشرة أعوام. صوت أذان المغرب انطلق من مآذن جدة التاريخية، فقصدت ووفد سيدات عمرة العالم مسجد الشافعي الذي كان من ضمن 85 مسجداً أمر أمير الرؤية محمد بن سلمان ترميمها، فاستمعنا من د. أحمد الرماح لقصة التسمية التي سببها تدريس المذهب الشافعي في المسجد. عدت من رحلة يوم واحد ورئتي وقلبي وفكري مملوء بأحداث ذلك اليوم، في رأسي قصص ملهمة سواء تلك التي عرفتها في رحاب جدة التاريخية أو من أولئك القادمين يحكون قصص دخولهم في الإسلام وزيارتهم للمملكة؛ ومنهم يتمنى ألا يغادرها. في رأسي ترددت قصيدة حمزة شحادة التي أختم بها: النُّهى بين شاطئيك غريقُ والهوى فيك حالمٌ ما يفيق ورؤى الحبِّ في رحابك شتَّى يستفز الأسير منها الطليقُ ما تصبته قبل حبك يا «جدة» دنيا بقيدها وعشيقُ »جدتي» أنت عالم الشعر والغنوة يروي مشاعري ويروق