ما بين الماضي والحاضر ارتفعت مآذن مئات المساجد في سماء جدة، بعضها كان شاهدا على أحداث هامة مرت على تاريخ المدينة العريقة كمسجد الشافعي بالمنطقة التاريخية، وبعضها الآخر ارتبط بشخصيات هامة عاشت فيها مثل مسجد المعمار، وهناك القليل منها لا يمكن لأحد أن يراها إلا ويتأملها معجبا بجمال وفرادة تصميمها كما هو حال مسجد عائشة، أما مسجد الرحمة فما يميزه عن غيره من المساجد هو موقعه وقصة ارتبطت فيه كانت سببا في أن يصبح مقصدا سياحيا يرتاده آلاف الحجيج طيلة أيام العام. «المدينة» زارت عددا من المساجد التي تزدان بها مدينة جدة، واستنطقت تاريخها وحاضرها وما ارتبط بها من قصص وذكريات وأشخاص. البداية كانت مع مسجد الرحمة الذي بناه رجل الأعمال صالح كامل على شاطىء البحر وأطلق عليه اسم والدته فاطمة، أغلب زوار المسجد من مسلمي شرق آسيا وخصوصا من إندونيسيا ويطلقون عليه «المسجد العائم»، يتسع المسجد لأكثر من ألف مصل ومن شبابيكه يطل المصلون على منظر ساحر للبحر، قبته لونها سماوي استعارته من لون السماء والبحر حولها، ومنذ بنائه العام 1406 هجرية أصبح مقصدا سياحيا للحجاج تنتهي به رحلة الحجاج والمعتمرين الآسيويين إلى جدة أو تبدأ عنده، تغير اسمه من مسجد فاطمة إلى الرحمة بسبب شكوك حامت حول اعتقاد بعض أبناء الشرق الأقصي بأنه يرتبط بالسيدة فاطمة الزهراء، لكن التحقيقات التي قامت بها لجنة من وزارة الأوقاف والمساجد أتت خصيصا من الرياض بحسب قول أحد المصلين المداومين على الصلاة بالمسجد لمدة تزيد عن الخمسة عشر عاما لم تسفر عن حقائق فيما يخص وجود ممارسات بدعية أو خاطئة، ليستمر المسجد في استقبال وفود السياح حيث يصلون فيه لقربه من المطار قبل وداعهم للأراضي المقدسة في رحلة عودتهم لبلادهم. انتقلنا بعدها إلى مسجد آخر هو مسجد عائشة نسبة إلى السيدة عائشة كعكي والدة رجل الأعمال عبدالإله بن محفوظ، أخبرنا نائب إمام المسجد معاذ باعظيم أنه بدأ باستقبال المصلين قبل ما يقرب الثلاث سنوات، ومن المؤكد أنه ومنذ ذلك الحين لم يملك أي عابر سبيل يمر من أمامه بشارع الأمير سلطان إلا التحديق فيه معجبا أو على الأقل متعجبا من تصميمه الفريد، فالمسجد عبارة عن مخروط معدني يطوقه ممر دائري، ومدخله عبارة عن بوابة زجاجية تفتح وتغلق إلكترونيا، وبداخل المسجد الذي يتسع لألفي مصل من الرجال وألف وخمسمائة من النساء سيقابل الداخل إليه محرابا فريدا من نوعه ومصنوعا من الكريستال، يوحي بأنه شمع في طريقه للانصهار، أما سقف المسجد فيتسم بالبساطة وتحزمه عدد من الأحزمة الخشبية تتقابل في منتصف أعلى زاوية المخروط. وبالإضافة لما تقوم فيه كل المساجد من عقد مدارس لتحفيظ القرآن الكريم للناشئة، فإن مسجد عائشة يتميز بعقده حلقات مماثلة لمنتسبي إدارته وجميع من يعمل فيه من عمال نظافة وغيرهم بعد صلاة العشاء، فيما بدأت يوم 23 رجب الماضي بحسب الشيخ باعظيم فعاليات ناد صيفي أطلق عليه «صيفي بكيفي» واستمر إلى 28 شعبان، قام خلالها الطلاب بأنشطة ثقافية ورياضية في لعبة التايكوندو، ومهارية تشمل برامج تدريب للكتابة على الجلد وفن الحوار وحاسب آلي، وبرحلات سياحية إلى الطائف وينبع بالإضافة إلى العديد من الأنشطة الخارجية كالذهاب إلى ملاهي الألعاب المائية. وأوضح الشيخ باعظيم أن مواعيد حضور الطلاب للنادي من السبت إلى الأربعاء أسبوعيا من بعد صلاة العصر إلى ما بعد صلاة العشاء مباشرة، وطلاب كل مرحلة من مراحل التعليم منفصلين عن المراحل الأخرى خلال كل النشاطات، ولا يختلف سبب إنشاء مسجد آمنة بنت محمد زاهد عن مثيليه السابقين، وهو رد الجميل إلى أمهات وهبن حياتهن في سبيل تربية أبنائهن، فلم يجد الأخيران أفضل من صدقة جارية رجاء عودة ثوابها إلى الأم الحبيبة، ولوحة توضع خارج المسجد تبقي اسمها على صفحة الزمن بعد أن طواه الموت، والسيدة آمنة زاهد هي زوجة علي حافظ الذي أسس مع أخيه عثمان حافظ جريدة «المدينة» ووالدة كل من هشام ومحمد حافظ وهما الإعلاميان المعروفان وقد أسسا المجموعة السعودية للأبحاث والتسويق التي ينضوي تحتها عدد من الإصدارات الورقية الإعلامية البارزة مثل جريدة الشرق الأوسط ومجلة سيدتي إلى آخر قائمة طويلة من الإصدارات المعروفة الأخرى، ويقع في حي الحمراء على شارع المواهب قريبًا من طريق الأندلس، ومبني من حجر صلد لونه بيج أعطى المسجد طابعا مميزا جعله يبدو أشبه بقلعة صغيرة لكن عصرية، وداخل المسجد بسيط وهادئ ويتسلل إليه ضوء لطيف من قبة ونوافذ زجاجية ملونة ويتسع مصلى الرجال لما يقرب من 500 مصلٍ، ويتميز المسجد بمكتبة تضم عددًا لا بأس به من الكتب المعروفة والمتداولة في تفسير القرآن وغيرها من الكتب الدينية. مسجد الشافعي ومع نهاية زيارتنا لمسجد آمنة زاهد تركنا الحاضر خلفنا ويمّمنا شطر الماضي متجهين إلى قلب المدينة بالمنطقة التاريخية حيث ولدت جدة، وتحديدا إلى حارة المظلوم حيث مسجد الشافعي أحد أقدم مساجد جدة وأكبرها حتى منتصف القرن الرابع الهجري بحسب قول المؤرخ محمد طرابلسي في كتابه جدة..حكاية مدينة، بناء المسجد مربع ويتوسطه فناء مكشوف تغمره الشمس أيام الصيف، وبناه حسب رواية المؤرخ محمد على مغربي في كتابه «أعلام الحجاز» الملك المظفر سليمان بن سعد الدين شاهنشاه الثاني أحد ملوك اليمن الأيوبيين والمتوفى سنة 649 هجرية، أما بعض المؤرخين فعزوا تاريخ بنائه إلى عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه وإن كان هذا القول بحسب طرابلسي يحتاج إلى تحقيق، ويضيف الأخير أن أهالي جدة كانوا وإلى وقت قريب يتوجهون بموكب العرس إلى مسجد الشافعي لعقد القران والصلاة فيه، ووفقا للعادات والأعراف كان لزاما على العريس من غير أبناء الحارة استئذان شيخ حارة المظلوم، ويمنع أي موكب عرس لا يلتزم هذه الأعراف والعادات وهو ما أدى إلى تحوّل كثير منها إلى «ساحة معركة»، أما مسجد المعمار والذي يقع في سوق العلوي بنهاية شارع قابل شرقا فقد بناه وفقا للطرابلسي في نفس المصدر السابق والي جدة مصطفى معمار باشا عام 1284، وإن كان المرحوم محمد نصيف عزا تاريخ البناء إلى ما قبل أربعة قرون وبذلك يكون معمار باشا والي جدة قد أعاد عمارته وتجديده، وبحسب نصيف نقلا عن طرابلسي فقد كان المصلون يتوضأون في البحر الملاصق للمسجد من الجهة الغربية.
------------------------------------------------------------------------ يشير المحدّث بالمسجد النبوي الشيخ عمر فلاتة إلى أن القيمة التاريخية للمساجد لا تمثل أهمية كبيرة للفقهاء كما هو الحال عند علماء الآثار، ففي حالة استدعت المصلحة هدم مسجد قديم لبناء آخر جديد مكانه "فلا حرج في ذلك، وفيما فعل النبي صلي الله عليه وسلم وعثمان بن عفان رضي الله عنه عند توسعة المسجد النبوي شاهد على ذلك"بحسب قوله، أما إذا اقتضت المصلحة أيضا وبحسب رأي الشيخ فلاتة الإبقاء على القديم وإضافة الجديد إليه كما حدث مع توسعتي الملك سعود بن عبدالعزيز وأخيه الملك فهد "فلا حرج في ذلك أيضا، فقد أضافا رحمهما الله إلى البناء العثماني القديم في المسجد النبوي أيضا". ويرى الشيخ فلاتة أن الأصل في بناء(مبنى) المسجد هو تهيئة جو العبادة المناسب للمصلين دون شغلهم بالزخارف والزينات، ويقول:"كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يوصي ولاته ومبعوثيه إلى الأقاليم ببناء مساجد تقي من البرد دون زخرفتها بما يشغل الناس أثناء صلاتهم"، ويستشهد بطريقة بناء الرسول صلى الله عليه وسلم لمسجده بالمدينة إذ"بناه من اللبن وسقفه بالجريد"، مستدركا:"لكن ذلك لا يمنع من إدخال التحسينات، فعثمان بن عفان رضي الله عنه جدد بناء مسجد المدينة بالصاج والخشب وأدخل عليه العديد من التحسينات"، ويتابع:"يميل الكثير من الفقهاء المتأخرين للرأي القائل بزخرفة المساجد بحيث لا تكون أقل من المنازل التي أصبحت الزخرفة فيها من الأمور الشائعة، لكن دون أن يصل الأمر لإشغال المصلين عن صلاتهم. وعن وظيفة المسجد ودوره يقول الشيخ فلاتة : إن الأصل فيهما هو العبادة وإقامة الصلوات، مضيفا:"لكن المسجد قام بأدوار أخرى منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فقد استفاد منه الفقراء الذين لا يجدون مسكنا وجعلوه ملجأ لهم كما حدث مع أهل الصفّة (ومنهم أبوهريرة رضي الله عنه)"، ويتابع:"وكان المسلمون يجتمعون كذلك في المسجد لتلاوة وحفظ وتعليم القرآن". ويذكر الشيخ فلاتة أن المسجد استعمل لاجتماع المسلمين في المناسبات المختلفة "كالأعياد التي كان الأحباش يرقصون فيها لاعبين بالرماح والسيوف، ولإعلان حالات الزواج وإبرام عقوده، وكذلك كمكان لالتقاء النبي بالوفود المختلفة القادمة لمبايعته في أول عاصمة للدولة الإسلامية بالمدينةالمنورة"، وبحسب الشيخ فلاتة فإن المساجد كانت ملتقى لكثير من النشاطات والمناسبات الإسلامية، وبقدر "اقتراب المسجد حاليا من أدائه لأكبر عدد من هذه الوظائف والمهام يكون قد اقترب من صورة المسجد في عهد النبوة".