يعتبر المواطن الخائن لوطنه في أي مكان من العالم من أكثر الأشخاص بؤسًا على وجه الأرض، لأنه يعيش تجربة من الألم والمعاناة لا يمكن تصورها، تجربة مليئة بالألم والحنين نتيجة الابتعاد عن وطن لا يشبهه أي وطن آخر. فما بالنا لو كان الوطن هو "السعودية"؟ إنها "السعودية"، التي تشتهر بين شعوب العالم برغد العيش والأمن والاستقرار. فهو الوطن الذي يفتخر بكونه واحداً من أكبر اقتصادات العالم، حيث يتقدم باستمرار في مجالات متعددة تشمل التعليم والصحة والأمن والتكنولوجيا وغيرها الكثير والكثير. وهو كذلك يعيش أسوأ مراحل حياته لأنه يشاهد قفزات الوطن الناجحة وإنجازاته التي أبهرت العالم وبالتالي يجد حديثه السلبي عن الوطن مسألة فاشلة بل وتعتبر مجالاً للتندر على خوائه الفكري لبعده عن الواقع. علاوة على هذا فلديه كوارث نفسية لأن الإنسان حين ينفصل عن وطنه، يشعر وكأن جزءًا من روحه قد فُقد فالوطن ليس مجرد مكان يعيش فيه، بل هو هوية وثقافة وتاريخ وإرث يحملها في قلبه. كيف لا، وهو ينتمي إلى مجتمع فريد يقدّر القيم والأخلاق وتتجلى فيه مظاهر الكرم والنخوة والألفة والمحبة بين الناس بينما المنشقّ يواجه واقعًا مختلفًا، حيث يشعر بالغرباء في كل مكان، حتى وإن كان محاطًا بأشخاص يتحدثون لغته. تتجلى معاناته في كل لحظة، فهو يتذكر كيف كانت الحياة تسير بسلاسة في بلده، وكيف كانت العائلة والأصدقاء يشكلون شبكة أمان ودعم. لكنه الآن يفتقر إلى الأمان ويعيش على فتات الدعم من هنا وهناك مما يجعله في حالة من القلق المستمر. كل يوم جديد يواجه تحديات جديدة في بيئة جديدة ويشعر بالندم على اختياراته في لحظة طيش وخواء قادته إلى هذه المرحلة المليئة بالصعوبات، فيتمنى لو عاد به الزمن إلى وطنه، إلى تلك الأيام التي كانت مليئة بالفرح والطمأنينة، لكنه يدرك أن العودة قد تكون صعبة. تتعدد التحديات التي يواجهها الخائن، من البحث عن فرصة عمل مناسبة إلى التأقلم مع عادات جديدة تتطلب منه ضرورة التكيف مع تلك المعاناة فضلاً عن بيئة ثقافية واجتماعية تختلف تمامًا عن التي نشأ فيها علاوة على الغربة التي تفرض عليه أن يكون قويًا، كل هذه الأمور وغيرها تتطلب منه جهدًا كبيرًا وقدرة على التحمل مما يجعله يحدّث نفسه بأنه كان في غنى عن كل تلك المتاعب حين كان في وطنه! في كل لحظة يبتعد فيها عن وطنه، تتزايد مشاعر الوحدة وألم الحنين مختلطة بالهوان والمذلة. يعيش في دوامة من المشاعر المتناقضة، فهو يحمل في قلبه حبًا عميقًا لوطنه، لكنه يجد نفسه مضطرًا للمكابرة والبوح بغير ذلك. يراوده الشعور بأنه عالق في مكان لا ينتمي إليه تمامًا وأنه أخطأ في حساباته، مما يزيد من معاناته النفسية. تظل مشاعر الألم والفقدان ترافقه، لكن الأمل يبقى حاضراً في ذهنه. يعيش في حالة من الترقب، متمنياً أن تأتي اللحظة التي يتمكن فيها من العودة إلى وطنه، إلى الأماكن التي تحمل له الكثير من الذكريات المتجذرة في وشائج الشجن فالخائن مهما تمرّد وعصى وقسا يبقى مرتبطًا دائمًا بوطنه وذكرياته فالحب الذي يحمله لن يموت، بل سيظل خالدًا في ذاكرته إلى الأبد. أتعس ما يشعر به ذلك الكائن المضطرب أنه تحوّل من «مواطن مخلص» إلى «مواطن خائن» العار أبد الآبدين إلا أن يعود لبقايا فكره الرشيد، إن وجد، يحمله إلى وطن آمن رشيد. "تصدَّعَت فيه الحياة وانشقَّتِ العَصا كَذاك النَّوى بين الخليط شَقوقُ "الشماخ بن ضرار".