فاجأتنا سلسلة «إبداعات عالمية» ( المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب - الكويت) برواية مهمة هي «موطن الألم» ( ترجمة محمد فرغل). للكاتبة الكرواتية دوبرافكا أوجاريسك المولودة عام 1949 في كرواتيا، والتي حازت العديد من الجوائز المحلية والعالمية. والروائية التي تعيش حالياً في هولندا، تطرح في روايتها هذه قضية النزوح الكبير من يوغوسلافيا إلى الخارج، بعد اندلاع الحروب العرقية بين مختلف طوائف البلد من صرب وكروات وبوسنيين وغيرهم عام 1991. كثيرة هي الروايات التي تحدثت عن المنفى، حتى أن هناك ما يسمى «أدب المنفى»، لكن أهمية هذه الرواية في كونها تقدم قراءة عميقة في نفوس الأبطال الذين نزحوا، بخاصة من خلال وصف علاقة معلمة اسمها تانيا بطلابها. تغوص الكاتبة في وصف مشاعر المهاجرين من وطنهم إلى بلد غريب، تمتلك فعلاً براعة دوستويفسكي في تحليل شخوصها، تصف مشاعرهم في بداية الهجرة: «في البداية كانت معنوياتنا عالية، إذ كنا نريد الاستمتاع بالحياة، كانت الحياة، انفجاراً، حفلة لانهاية لها، ثم مع الوقت يتسلل إلينا شعور الرعب، إذ نشعر أنه لا يوجد أحد خلفنا ولا أمامنا، ونقع ضحايا يأس غير مرئي». تفاصيل مأسوية تلتفت الكاتبة إلى تفاصيل تبدو تافهة ومضحكة لمن يقرأ الرواية قراءة سطحية، مثلاً تصف حالة والدها الذي أصيب بحالة من التدفق الكلامي، إذ ما كان قادراً أن يوقف نفسه عن الكلام، حتى أنه يخاطب الجدران حين لا يجد أحداً يكلمه، ولم يكن مدركاً أن الكلام يتدفق منه باستمرار حتى أثناء نومه. تسمي الكاتبة حالة والدها بالثرثرة القسرية، ثم تصف كيف أن أمها والعديد من صديقاتها صار لديهن ولع شديد لدرجة الانغماس الكامل في حضور المسلسلات التافهة، وأصابتهن حالة من الهستيريا والغيبوبة التلفزيونية. تحلل الكاتبة ما حصل مع أمها وأبيها بأنه نوع من الرفض المطلق للواقع الجديد، واقع المنفى. كما لو أن الثرثرة أو المسلسلات التافهة، تشكل وسائل مساعدة للدفاع عن الذات، الذات المتألمة لأنها انسلخت عن الوطن، والخائفة لحد الذعر من العالم الجديد. إن المنفى ليس مجرد مكان جديد، بل إن المَنفي يغيّر زمانه، فيظل عالقاً في إطار زمن ماض. تتجلى أزمات المنفى في علاقة تانيا، وهي معلمة يوغسلافية مع طلابها المهاجرين مثلها. تحاول أن تجعل من طلابها شخصيات متصالحة مع الماضي، رغم أنها هي ذاتها تعاني ألم المنفى. تصف الكاتبة هذا الألم، بأنها تجد نفسها فجأة متوقفة في منتصف الشارع وقد نسيت إلى أين كانت ذاهبة، وتشعر كما لو أن أيامها تشبه من يذهب للنوم في حياة ويستيقظ في حياة أخرى، وكيف أنها في كثير من الأحيان يقطع نومها ألم قهري عصيّ على الوصف، ثم تبكي وهي تدندن «آه يا جرحي». وتصف الجراح بأنها الحب. أن تعيش في المنفى يعني أن تتوقف فجأة عن السير، وتشعر أن عليك تجميع أجزاء روحك وجسدك، أن تعيش في المنفى يعني أن تتجاهل أنك فقدتَ كرامتك وبأنك ارتديت قناعاً محاولاً الدفاع عن نفسك، لكنك مع الوقت لا تعود قادراً على أن تعرف نفسك. تعاني المعلمة تانيا صعوبات كثيرة مع تلامذتها، المهاجرين مثلها، كانت تريد أن ترسّخ في أذهانهم ثقافة الوطن الأم، لكنهم واجهوها بموجة غضب واستنكار. كانوا متألمين ويفكرون بطريقة مختلفة، كانوا يعتقدون أن مواضيعها التي تطرحها عليهم تدور حول ثقافة فقدت جوهرها بالكامل. كانوا متألمين فالحرب قد هرست زهور الأمل في نفوسهم، والمنفى يشعرهم بالغربة والألم، فكانوا يشعرون أن تذكر أغاني وطنهم وثقافتهم الشعبية هو نوع من استعادة الجراح. تصف الكاتبة لحظة قرأ أحد طلابها قصيدة الشاعرة الشهيرة ديسانكا، والتي حفظتها أجيال من تلاميذ المدارس في يوغسلافيا السابقة، وكانت مقررة في كل الكتب المدرسية والمختارات الأدبية، وكانت القصيدة تعالج حدثاً وقع بالفعل حين أعدم الألمان صفاً كاملاً من التلاميذ عام 1941 في إحدى مدن يوغسلافيا. الماضي أم المستقبل؟ تصطدم تانيا بطلابها الغاضبين والذين آلمتهم الحرب والقتل والمنفى، يتمردون على مواضيعها لأنهم يشعرون أنها لا تتحدث إلا عن الماضي، وبالتالي تسجنهم في هذا الماضي، وحين تعطيهم مواضيع من كتب أهم كاتب يوغسلافي وهو أندريتش يتمردون عليها ويسألونها: أي أندريتش هذا! أندريتش الكرواتي أم أندريتش الصربي أم أندريتش البوسني؟ إنهم ممزقون ومتألمون، وحين أرادت أن تناقش معهم تاريخ الأدب، صرخ أحدهم في وجهها:» عليك أن تذكري أن مكتبة جامعة ساراييغو قد قصفت ومُحيت من الوجود، وأن كتبها ألقيت في المزابل. أنت تتعاملين معنا بغش ولا مبالا، تريدين التحدث عن تاريخ الأدب اليوغوسلافي ولا تتحدثين عن الدمار والحرب، أنتِ تتجاهلين الذكريات التي لا نهاية لها للإهانة والألم، لقد تغيرنا جميعاً، والحرب هي المسؤولة عن ذلك، لا أحد يخرج من الحرب من دون خسائر، لا أحد سليم العقل». ماذا يفعل من يضطر لمغادرة وطنه الحبيب إلى المنفى ؟ ما الاحتمالات المتوفرة لديه، هل يتصالح مع الضياع ؟ أو يشعر بالراحة حين يعتقد أنه نسي الماضي، أم أنه - وهو الأغلب - يسقط أسير حنين آسر، بل إن الكاتبة تقول في الصفحات الأخيرة من الرواية: يرتدي الحنين دائماً قناعاً. رواية عميقة وآسرة تكشف أدق خلجات المشاعر التي يحس بها إنسان أجبرته ظروف وحشية وقاسية على هجر وطنه إلى بلدان غريبة، وكيف يتحول هذا الإنسان إلى كائن غريب عن جوهره، لكنه يبقى أسير أقنعة متنوعة للحنين. وتعترف الكاتبة بأن حياتها كانت مُربكة لدرجة أنها لا تعرف إن كانت كتبت هذه الرواية لتصل إلى نهاية مواضيع تؤرقها، أم إلى بدايتها؟ وتتساءل كما لو أن سؤالها يتفجر من ملايين الحناجر لمظلومين ومقهورين في العالم كله: هل يستطيع الإنسان نسيان أولئك السفلة والمستبدين الذين عبثوا بحياته؟ لكن قد يكون للمنفى نعمة لا يستهان بها، هو أنه يلطف الجراح ويساعد على النسيان.