هذا الوقوف لم يخرج عن الثقافة والبيئة الاجتماعية، ولم يكن للشاعر أن يتغنى بعيدا عن ذلك المحيط الذي كان يعيش فيه وعلى هذا تفيض مشاعر الشاعر وتتدفق عواطفه وبهما يستجدي الحنين ويعيش حالة المجتمع على اختلاف توجهاته، ومن واقع الجغرافيا وتداعيات التاريخ وواقع الثقافة في الحياة الاجتماعية تلد قصائد الشعراء، ومن هنا يتضح بجلاء انه لا يمكن أن ينفصل الأدب عن الثقافة ولا الثقافة عن الأدب، وكلاهما صنوان كل منهما يتواشج مع الآخر، إذاً الشعر لا يمكن أن يكون مشاعر فقط منسلخة عن واقع الحياة والوجود ولا يمكن للآداب أن تتمثل وتتكون خارج العلاقة بالثقافة السائدة وأنماط المجتمع المختلفة، لأن الثقافة هي قيم مجتمعية يتشارك فيها الجميع والشاعر ضمن ذلك الجمع الكبير، بل إن الشاعر هو من يعيش معاناة الناس ويترجمها شعرا من خلال وقع إيقاع الحياة اليومية التي تمثلها الثقافة السائدة في المجتمع، حتى إن القصيدة تتراءى له في مسرح الحياة، فتولد شعرا يعبر عن معاناة الناس وهمومهم، إذا الشعر لا ينفرد بخاصية عن غيرها بل هو عقل ووعي وحواس ومشاعر وخيال وأفكار ومكان وزمان ووجود كل ذلك يمثل ثقافة ضمن محيط اجتماعي واسع ومتعدد، في المقابل إذا أردنا أن نرتكز على قاعدة عريضة تؤكد تلازم الأدب بالثقافة علينا أن نستحضر بقايا طلل مادي بائد حال الوقوف الأول في سقط اللوى بين المواضع الأربع، الدخول وحومل وتوضح والمقراة التي لم يمح رسمها رغم مرور الوقت وطول الزمن ولا نزال على ذكرى سقط اللوى فالشعراء يستجدون به الحنين ويستلهمون ذلك الموقف للوصول إلى أعلى مراتب الحنين، وعندما نقف مفهومياً أمام الحالة الطللية لامرئ القيس في مطلع قصيدته: (قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل) فإنها تنقلنا إلى لحظة زمنية مباشرة تحرضنا على الاستجابة لأبعاد المكان وطلله حد الإغواء، واستطاع الشاعر من واقع ثقافي كان يعيش فيه أن ينقل لنا حالة الوجع والآلام التي كان يعيشها وبالتالي فإن قفا نبك وضعت لنا الماضي البعيد في الحاضر، حاضرنا نحن اليوم، لنعيش مرحلة مليئة بالأنين والحنين، ووضعت حاضرنا ضمن مواجع الماضي وأناته وآلامه، وذلك من خلال ثقافة تنتقل إلينا عبر الأجيال، إذاً الثقافة هي حضور في عمق الأدب وعندما يغيب المفهوم الثقافي من وحي القصيدة حتما تغيب رؤاها الجمالية وفضاءاتها الدلالية التي تعبر عن تلاحم بين بعدي الثقافة والأدب، وبالتالي الغياب التام للتجربة الوجودية للشاعر التي عاشها كثقافة داخل الرواق الاجتماعي العام، وعندما نقف بوعي على قصيدة شاعر البيد الشاعر محمد الثبيتي الذي استحق هذا اللقب وفقا لسياق قصائدة التي ارتبطت بالثقافة أقول عندما نقف بوعي وفطنة على قصيدته تغريبة القوافل والمطر فضلا عن غيرها فإننا نعيش الواقع الذي وضِفت فيه الثقافة بشكل مباشرة في مبناها ومعناها أثناء رحلة السفر في عرض الصحراء وفي غلس الليل وهم في ترحال مستمر بين الكثبان الرملية في الظعن والإقامة، كل هذا لم يكن خارجا عن النسق الثقافي السائد في تلك البيئة الصحراوية، وكما يلاحظ كل الأسماء والمصطلحات التي جاءت من البيئة المحيطة من عمق الثقافة التي شكلت قصيدة في مجملها وهي تغريبة القوافل والمطر كما ذكرنا أن الصورة التي يسوقها الشاعر كلوحة مشهدية تُرى فيها تنوع المشاهد وتعددها وهو يحاول أن يلبي عالما آخر يعجز عن الوصول إليه بالكلام العادي فيحلق بنا من خلال الصور والمشاهدات ويجبرنا إلى لحظة الوقوف للوصول إلى حالة من التأمل بقوة اللغة وبفعل الثقافة التي تنبثق من وقع إيقاع الحياة اليومية، الأمر الذي لا يجعلنا أن نجرد الأدب عن الثقافة أو نفصل الثقافة عن الأدب وإلا فإننا نضع المسافة الفاصلة بين الشاعر ومجتمعه ونعمق الهوة ونوسع الفجوة لذا تغيب دلالات القصيدة ويغيب الشاعر عن قضايا المجتمع ومعاناته ولعل في هذا الإيجاز السريع توئمة بين الثقافة والأدب وتعزيز مبادئ الهوية والانتماء.. وإلى لقاء. محمد الثبيتي