كما يتفاوت المرض في طبيعته وضراوته، يتفاوت البشر في القدرة على تحمله، وفي كيفية مواجهته. البعض يقنط ويضجر، والبعض يرضى ويصبر، البعض ينهار ويستسلم، والبعض يقاوم ويستعصم. ويحفل الشعر الحديث (شعر التفعيلة) بتجربتين فريدتين في مواجهة المرض، هما تجربة الشاعر العراقي بدر شاكر السياب، والشاعر المصري أمل دنقل. وإن كان ثمَّ توافق في التعاطي مع المرض بينهما أو اختلاف، فهذا ليس موضوعنا، وإن كنا سنتحدث عن تعاطي أمل دنقل مع المرض. فكما تزيد الرياح بعض الأشجار رسوخاً وتماسكاً بالأرض، وكما تزيد النار الذهب نقاءً ونبلاً، زاد المرض الشاعر المصري أمل دنقل (1940-1983م) توهجاً وإبداعاً. وكما كان أمل قوياً وصلباً في مواقفه القومية، كان قوياً وصلباً في مواجهة المرض، كان المرض ينهش فيه وهو يفتش في أخاديع الوجع عن عرائس الشعر «الفرح المُختَلس». ظل أمل متشبثاً بشعره وهو على أعتاب الموت، كأن صراعاً دائراً بين موت يتسلح بالمرض الخبيث وبين شاعر مقاوم يتسلح بالشعر. ولكم وافق الحقيقة وصف الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي لهذا الصراع عندما قال عنه: «إنه صراع بين متكافئين، الموت والشعر». ولم يكن هذا الصراع ليدفعه لرفع الراية البيضاء، والاستسلام لذلك الوحش الخفي، بل ظل قوياً مقاوماً كما كان دائماً، وظل يلوذ بفنه، ويستجمع طاقته الإبداعية ليخرج لنا ذلك الوهج الشعري المشرق، المتجسد في تجربة إنسانية لشاعر مرهف الحس لامع الفكر، وهو يلقي بأوراقه الأخيرة في الحياة مملوءة بخبرة كثيفة عن الوجود، وعن الحياة والموت. وأوراق الغرفة 8 هو الديوان الأخير لأمل دنقل بعد دواوينه الخمسة: «البكاء بين يدي زرقاء اليمامة» الصادر في بيروت عام 1969م، و»تعليق على ما حدث» الصادر في بيروت عام 1971م، و»مقتل القمر» الصادر في بيروت عام 1974م، و»العهد الآتي» الصادر في بيروت أيضاً عام 1975م، وديوان «أقوال جديدة عن حرب البسوس»، الصادر في القاهرة عام 1983م. والغرفة رقم 8 غرفة بالدور السابع في المعهد القومي للأورام في القاهرة، قضى فيها الشاعر قرابة عام ونصف من فبراير 1982م إلى رحيله في مايو 1983م، وإن كان المرض ينهش في جسمه وعظامه منذ أوائل سبتمبر 1979م. ويضم هذا الديوان، الذي نشرته زوجته، الكاتبة والصحفية «عبلة الرويني»، بعد أربعين يوماً من وفاته، القصائد الأخيرة التي كتبها أمل دنقل طوال فترة مرضه، وتحديداً في هذه الغرفة، فقد ظل أمل يكتب الشعر وهو على سرير المرض فيها، على علب الثقاب وهوامش الجرائد، ولم يهمل الشعر لحظة حتى آخر أيامه. والقصائد، التي كانت ثمار الصراع مع المرض بين جدران الغرفة 8، شملت: زهور (مايو1982م)، ضد من (مايو 1982م)، لعبة النهاية (يونيو 1982م)، السرير (نوفمبر 1982م)، ثم الجنوبي (فبراير 1983م)، بينما القصائد الثلاث: «إلى محمود حسن اسماعيل في ذكراه» و»الطيور» و»الخيول»، كتبت جميعاً عام 1981م، ولكنه ظل يعدِّل ويغير في الثانية والثالثة منها حتى استقر على صيغتهما النهائية في أكتوبر وديسمبر 1982م على التوالي، وجميعها كانت في فترة مرضه ما قبل الغرفة 8 . وكانت قصيدته «الجنوبي» هي الورقة الأخيرة في أوراق الغرفة 8، وفي رحلة إبداع أمل دنقل، وهي التي بلورت الرؤية الشمولية، وأتمت تأملاته الفلسفية فيما قبلها من قصائد. وبقية قصائد الديوان: ديسمبر (بلا تاريخ)، وبكائية لصقر قريش (بلا تاريخ) و»مقابلة خاصة مع ابن نوح 1976م» و»خطاب غير تاريخي على قبر صلاح الدين 1976م»، لا تنتمي لمرحلة مرضه، فهي أقدم عهداً وقد ضمنتها زوجته الديوان اتساقاً، كما ترى، مع الدلالات الأساسية التي ينظوي عليها الديوان. تكتنف قصائد فترة المرض رؤية فلسفية تلتفت إلى البداية المعبقة بروائح الميلاد وتمر بظلال الماضي وأشخاصه، لتعبر نحو أنفاس النهاية المجهدة. حاول الشاعر أن ينسج من الوهن الذي يكابده حياة أخرى، أو يستنطق الحياة في الماضي، وفي الأشياء الساكنة المحيطة به في سياق فلسفي. فحين يعتصر الألمُ الإنسانَ الشاعرَ، يفتِّش في حطام الذاكرة عن مرفأ يأتنس به ويجد الراحة فيه، فلا يجده سوى في أحضان الماضي، حيث الهدوء والسكينة والوداعة، وحيث الوجوه الرفيقة الرقيقة، يستدعي منه ما يعيش عليه، فتتوارد عليه الوجوه، ومنهم وجهه القديم، وجه الطفولة البريئة، وعندما يتأمله تتملكه الدهشة وينهشه التساؤل: «هل أنا كنت طفلاً.. أم أن الذي كان طفلاً سواي» ثمَّة إحساس بالغربة يشعر به الإنسان «الشاعر» المريض، غربة الذات حالةً وروحاً، وتشتتها بين ما كان وما أصبح، بين ملامحها القديمة ذات العذوبة، وتلك الحديثة التي تخلو من الرقة والطيبة: «لكنّ تلك الملامح ذات العذوبة لا تنتمي الآن لي والعيونُ التي تترقرقُ بالطيبة الآنَ لا تنتمي لي صرتُ عني غريبا» ويهيّج المرض الذكريات، فتقبل عليه وجوه الماضي، وجوه الرفقاء، والبسطاء، والأبطال، هؤلاء الموتى الأحياء، ممن شاركوه الحياة والحلم، وتوارثت ذاكرته منهم ما تعيش عليه. يتذكر صورة أبيه، رمز الحماية والسند، وأخته ذات الربيعين، رمز البراءة البكر، تلك الجوهرة المفتقدة في العالم: «أتذكرُ ... مات أبي نازفا أتذكرُ ... أختي الصغيرة ذات الربيعين» ثم تتوالى وجوه الأموات، وجهاً فوجه، هؤلاء الغامضون، الذين رحلوا وتركوا له الذكرى، الشيء الوحيد الذي تبّقى منهم، والشيء الذي لا ينفك ينهش فيه. «هذا هو العالم المتبقي لنا: إنه الصمت .. و الذكريات» وتتجلى هذه الوجوه في صور رائقة يتأملها ويصفها في بيان ملؤه الشجن، فهذا وجه رفيقه القاص يحيى الطاهر عبد الله، الذي لا يزال يحيا معه ولم يمت: « هل يموتُ الذي كان (يحيا) ... كأنَ الحياةَ أبد عاش منتصباً، بينما ... ينحني القلبُ يبحث عما فقد» وهذا وجه رفيقه في الشعر والحلم، الشاعر محمود حسن إسماعيل، الذي وافته المنية بعيداً عن وطنه، هناك في الكويت. وهذا الذي كان يشاركه السرير وكسرة الخبز والتبغ ولكن لا يشاركه المرارة، وهذا وجه عامل البناء الذي هوى من فوق «سقالة» البناء ميتاً، بينما كان يغني للفضاء، ليغطي وجه بالجريدة التي كان يتصفحها وهو جالس على المقهى القريب. هي وجوه من عالم الموتى تطل عليه وكانه يتنبأ برحيله، وهو يشتهي أن يواجه هذ الأوجه الغائبة: «فالجنوبي يا سيدي .. يشتهي أن يكون الذي لم يكنه يشتهي أن يلاقي اثنتين: الحقيقةَ .. والأوجهَ الغائبة» وعندما يرحل من نحب، نفتقد بفقدهم الوطن، كأنهم هم الوطن أو هم من يعطوننا الإحساس بالألفة فيه: «كل الأحبة يرحلون ... فترحل شيئاً فشيئاً من العين ألفة هذا الوطن» إنه إحساس المريض الدائم بعدم الراحة، المفقودة في الحياة (ومتى القلب في الخفقانِ اطمأن ؟). والمريض تصفو عنده الرؤية، فتتبدد من سماء إحساسه، وسماء رؤيته، كلُ الغيوم، عندها يرى ما لم يكن يراه من قبل، وما لا يراه الأصحاء غيره، تتجاوز رؤيته إلى ما خلف الأشياء، فخلف اللون الأبيض الذي يغلِّف الأشياء حول المريض، ويبعث فيه الوهن، ويذكره بالكفن، هناك تساؤل ملح: لماذا إذن يأتي المعزّون متشحين بالسواد؟!، هل لأن السواد هو لون النجاة من الموت.. لون التميمة ضد الزمن؟ كيف يكون ذلك، والحياة كلها معاناة وقلق مستمر «ومتى القلب في الخفقان اطمأن». إنه كمريض يقرأ ما في أعين زائريه، ويستنطق نظراتهم، فتبوح له بعضها بأنه ميتٌ لا محاله، وتراه الأخرى سيعيش دهراً، والحقيقة التي يراها هو في العمق هي أن الكل سيموت ويبقى تراب الوطن هو الأبقى. «وأرى في العيونِ العَميقةِ .. لونَ الحقيقةِ .. لونَ ترابِ الوطن! والمريض المتكوم فوق السرير، تستلفته، تلك الزهور التي حملها إليه الزائرون، وتشاركه الغرفة، إنها تتحدث له كيف جاءت إليه وأحزانها الملكية ترفع أعناقها الخضر؛ كي تتمنى له طول العمر، وهي تجود بأنفاسها الأخيرة، إنه يشعر بها، ثمة تشابه بينهما: «فكلُّ باقهْ.. بينَ إغماءةٍ وإفاقهْ تتنفسُ مِثلِىَ - بالكادِ - ثانيةً.. ثانيهْ وعلى صدرِها حمَلتْ - راضيهْ اسمَ قاتِلها في بطاقهْ!» وها هو السرير الذي ينام عليه وعليه بطاقة بياناته كمريض صار رقماً بلا اسمٍ، هذا السرير الذي أوهموه أنه طريق النجاة من المرض، هو الآخر توحد معه، فصار والسرير واحداً: «صرت أنا والسرير .. جسداً واحداً.. في انتظار المصير» ويتبلور إحساس المريض بالموت في لعبة النهاية، فيراه كطفل لاهٍ، يرمي بنبلته المارة.. فيصيب منهم من يصيب كيفما اتفق. ثم هو، الموت، يتوجه للبحر ليطرح في الماء سنارة الصيد فيعلق بها من أصابه الحظ ليُكتب اسمه في سجل الراحلين، هذا الموت الماكر، الذي يدور في صور خادعة، يأتي إليه متنكراً ومتظاهراً بأنه يعطيه الدواء، يمد إليه كوب الماء في يدٍ، وفي الأخرى يمد حبوب الدواء، حينها لم يجد في قوته ما يستطيع بها مواجهة هذا الأفعوان المخادع، فما كان منه إلا الاستسلام لمصيره. «أمس .. فاجأته واقفاً بجوار سريري ممسكاً بيدٍ كوبَ ماء ويدٍ بحبوب الدواء فتناولتها كان مبتسماً .. وأنا كنت مستسلماً لمصيري» ** **