يتجاوز معرض الكتاب الدولي في الرياض، الذي يفتح أبوابه غداً، موقعه وحيّزه المكاني التقليدي ليمتدّ إلى كونه، ذلك الفضاء الثقافي الرحب الذي رسّخ قيمة التواصل والتثاقف، مُجسّداً الحوار الفاعل والخلاّق بين الإنسان والكتاب، وبين الفكر والحضارة. معرض الرياض للكتاب بات أيقونة ثقافية حضارية عالمية ذات بُعد إنساني مهم وفارِق. ويأتي المعرض كملمح سعودي يعكس أنموذجية الاستدامة الثقافية التي تعيشها بلادنا في رخاء ثقافي لا نجده إلا في بلادنا، بفضل الله ثم بفضل حنكة قيادته التي جعلت الثقافة من مقومات جودة الحياة ونصّت على ذلك في رؤيتها المباركة. اليوم يُشكّل الكتاب جسرًا بين الأزمنة والثقافات، بعد أن نجحنا في أن تتحول القراءة في مجتمعنا من فعل ثقافي إلى ممارسة وجودية تعبّر عن شغف الإنسان بالسؤال والمعرفة والمثاقفة والتشارك مع الآخر ثمرات الفكر ومنتجات العقل الخلاق الممتد نحو عطاءات الخير والجمال والسلام، وتبادل كل ما من شأنه أن يجسّر الفجوة بين الإنسان وأخيه في الإنسانية. وإن أردنا الإطلالة على أهمية مثل هذه المعارض وملتقيات الفكر من منظور أنثروبولوجي، فإن المعرض يشكّل تجسيداً حيّاً وحقيقياً للتبادل الثقافي والمعرفي؛ حيث تلتقي الهويات المتنوعة وتتفاعل ضمن فضاء واحد، مُعيدةً صياغة المفاهيم حول المعرفة والهوية والعالم. ويبرز الكتاب بصيغته الورقية، وتداعياته النفسية الملهمة أحد مباهج تلك الملتقيات، فالكتاب يتجاوز النظرة الضيقة في اعتباره مجرد سلعة، وإنما يفرض حضوره كقيمة معنوية وفكرية بل إنه يتجلّى كامتداد متعاظم للإنسان، وممثل لأفكاره وقيمه ورؤاه للعالم. إن المعرض بهذا الصدد يمثل «حقلًا ثقافيًا» وفق تعبير بيير بورديو، حيث تتنافس الأفكار وتتلاقى الرؤى لتشكيل معالم الحاضر والمستقبل. ولعل هذه الملامح تدفع المثقفين والقُرّاء الجادّين بأن يواصلوا رهانهم على الكتاب حاضراً يمتد ولا ينكفئ، بل يذهبون إلى أُلى أبعد من ذلك، فيعتبرون الكتاب قادراً على إعادة صوغ وتشكيل الواقع، كما أنه يوفر للإنسان فرصاً لا نهائية للتفكير في ذاته والعالم. وبهذا السياق، يعد المعرض ملتقى للنُّخب والعامة وشُداة الوعي والمعرفة والجمال بكل فنونه. ولا يغيب عن كل ذي بصيرة بأن الكتُب تجمع الماضي والحاضر والمستقبل في لحظة واحدة، مشكّلةً بذلك مساحة تفكير حول الزمان والمكان والوجود الإنساني. وفي ضوء رؤية المملكة 2030، يأتي هذا المعرض كأحد أعمدة النهضة الثقافية، محققاً أبعاداً تتجاوز الاقتصاد الثقافي إلى إعادة تشكيل الهوية الثقافية والفكرية. إن ما هو متوقع من هذا الحدث ليس تعزيز القراءة كقيمة فقط، بل خلق حالة من الحراك الخلاق والفهم الإنساني، الذي يفزز الراكد من الأفكار ويخلق مجتمعاً واعياً مثقفاً، ينطلق في رؤاه وقيمه من حقيقة أن الكتاب أداة أساسية في مواجهة تحديات العصر وتغوّله وموجة التسطيح التي تهدد العقول وتعد بتشطّي فكري وقيمي، وأن القراءة والكتاب هما جناحا التغيير للأفضل، وأنهما سياجنا الآمن من كل عبثية ومحاولة تتفيه للعقول وانهيار للمجتمع وقيمه.