منذ القديم تشير دلالات مادة العنوان في المعاجم اللغوية إلى الظهور، والتقدّم؛ وقد جاء في كتاب العين للخليل بن أحمد الفراهيدي (170ه) في مادة (عنن): «وعَنَّ لنا كذا يَعِنُّ عَنَنا وعُنُوناً: أي ظهر أمامنا، والعَنَونُ من الدّوابِ: المتقدمة في السير (...) والعِنان من اللجام: السَّيرُ الذي بيد الفارس الذي يُقوِّمُ به رأس الفرس، ويجمع على أَعنّة وعُنُن، وعَنانُ السماء: ما عَنَّ لك منها، أي بدا لك إذا نظرت إليها (...) ويقال: أعنان السماء»؛ ولأن معجم العين للخليل بن أحمد الفراهيدي من أقدم المعاجم اللغوية، وأرسخها قدماً في الحقل المعجمي؛ فقد عثرنا فيه على إشارة صريحة تؤكد على أصل العنوان ودلالاته، وفي هذا ما يشير إلى أصالة كلمة (العنوان) وعراقتها، وأنها ذات إرث لغوي قديم، يقول الخليل في معرض حديثه عن مادة (عنن): «وَعَنَنتُ الكتابَ أَعُنُّهُ عنّاً، وَعَنونتُ، وعَنوَيتُ عَنونَةً، وَعُنواناً». ويردّد بعضهم عبارة (الكتاب واضح من عنوانه)، يريدون بذلك أن الكتاب يُعرَف جزء كبير من محتواه من خلال تلك الإشارة الأولى؛ فالعنوان مفتاح لما قد يستغلق فهمه داخل الكتاب، وعن طريقه تُدرك بعض الأسرار، والتفاصيل، والعوالم المتعلقة بالمادة التأليفية، ومن هنا لا يمكننا أن نعثر على كتاب دون أن يُعنوَن بعنوان يصفه، ويكون كاشفاً عنه، ومجيباً عن مضمونه، وناطقاً لما في أعماقه؛ فإن عنوان كل شيء إنما هو واجهة له، والعنوان للكتاب بمنزلة الوجه للإنسان، إذ يفصح عن بعض مشاعره، ويترجم شيئاً من أحاسيسه؛ فيكون دالاًّ عليه في الغالب، وإن لم يكن محيطاً بكل شيء، أو مستقصياً له. وقد بلغ من قيمة العنوان أن اهتم به أهل صناعة الكتابة قديماً؛ ولهذا توقف أبو بكر الصولي (366ه) عنده في كتابه (أدب الكتّاب)، فأشار إلى أن «العنوان العلامة، كأنك علمته حتى عرف بذكر من كتبه، ومن كتب إليه (...) وقال المأمون لرجل رآه في موكبه فلم يعرفه، وكان جسيماً: ما هذه الجسامة؟ قال: عنوان نعمة الله، ونعمتك يا أمير المؤمنين. ويروى أن معاوية قال لبعض العرب مثل ذلك، فأجيب بهذا الجواب»، ولعل الصولي في هذا الكتاب من أوائل الذين فصّلوا في مفهوم العنوان، وأهميته، بل إنه ألمح إلى قيمته التداولية، وبعض دلالاته السيميائية؛ فقال: «وكانوا يكتبون في العنوان (بسم الله الرحمن الرحيم)، مثل ذكر من كاتب ثم ترك. قالوا: والأحسن في عنوان الكتاب إلى الرئيس، أن يعظّم الخطّ ويفخمه، إذا ذكرت كنيته، أو نسبته إلى شيء، وأن تلطف الخط في اسمك واسم أبيك وتجمعه. وقال المحقّقون من الكتبة: إن في ذلك إخلالاً للمكتوب له، وفي مخالفته غضّ منه، وتطاول عليه». ففي النصين السابقين اعتناء واضح بالعنوان، وإشارة صريحة إلى ضرورة مراعاة أحواله التداولية، وعلاماته السيميائية، فهو نصٌّ ذو قيمة عالية، تخضع لاعتبارات كثيرة، واشتراطات مهمة، ينبغي عدم إغفالها؛ ألا ترى أنك لو جرّدت كتاباً، أو مقالاً، أو نصّاً عاماً من عنوانه، لألبستَ على المخاطب، وأوهمتَ المتلقي، وكنتَ سبباً في عدم الوضوح والالتزام، وربما عدم التقدير والاحترام؛ ذلك أن مستقبل النص ينتظر ما يزيل عنه الغموض، ويقوده إلى حيث التيسير والتسهيل، لا التعقيد والتضليل.