منذ أن انطلقت هجرات العرب من جنوب الجزيرة العربية، على طول شواطئ بحر العرب من أقصى اليمن ومن أدنى أرض عُمان، الى بلاد الشام والعراق، في ما عرف بالهجرات السامية أولا ثم بالهجرة الكبرى للأزديين الى غرب الجزيرة العربية ووسطها وشمالها، تتابعت مراحل التطور اللغوي تتابعاً كبيراً بحيث مهد ذلك لظهور الدراسات اللغوية بدءاً من نهاية القرن الأول للهجرة. هذه الدراسات اللغوية نظرت الى اللغة باعتبارها ثلاثية الأصول، ورسخ الخليل بن أحمد الفراهيدي الأزدي هذه الحقيقة في كتابه الذائع "العين" الذي أصبح موئلا لدارسي اللغة كافة عبر حقب التاريخ. غير أن هذه الحقيقة الثلاثية للغة تستوقف الناظر، لأن من غير المعقول، ومن غير المنسجم مع طبائع الأشياء أن تظهر اللغة مكتملة قائمة على الأساس الثلاثي، أي على الجذور ذات الحروف الثلاثة، مثل ع.ل.م ود.ر.س وع.ر.ف وغيرها. ومن الواضح ان اعتماد الخليل بن أحمد على الأصل الثلاثي لم يكن بحثاً في نشأة اللغة وتطورها، بل كان نهجاً لترتيب الألفاظ وتجميعها وبيان معانيها، والا فإنه هو نفسه يشير الى الأصل الطبيعي للغة، فيبين الفرق بين صرّ وصرصر ذاهباً الى أن القوم رأوا في الأول تقطيعاً وفي الثاني امتداداً وتطويلاً، فأعاد اللغة الى الأصوات ودلالاتها القديمة. بل ان الخليل بن أحمد نفسه هو الذي أرسى رسم الحركات على ما هي عليه اليوم، بعد ان وضع سابقوه أساسها الأول. فالأصوات، اذن، هي التي تمثل النشأة اللغوية، وكل حرف من حروف اللغة هو صوت، قد يكون بسيطاً وقد يكون مركباً. ومن هنا يظهر لنا سبب اضطراب القدماء واختلافهم، بمن فيهم العلماء الكبار، في تحديد ما سموه ب "حروف العلة" التي هي الهمزة والواو والياء، حتى ان الخليل بن أحمد يحدثنا في مقدمة كتابه "العين" انه أراد أن يبدأ معجمه بالهمزة لكنه رآها متغيرة متقلبة، فأحياناً تتحول الى ياء وأحياناً الى واو، لذا آثر أن يتبع الترتيب الأصواتي مبتدئاً بالعين، باعتباره أدخل الحروف في الحلق حين النطق به. ويظل موضوع الأصوات هاجس اللغويين العرب الكبار، وبخاصة أولئك الذين تشربوا تراث الخليل وورثوا نهجه وساروا في طريقه. فظهرت معجمات انصرفت الى العناية بما نسميه ب "الحركات" وهي الكسرة والفتحة والضمة. وقد استهل محمد بن المستنير، المعروف بقطرب ت 206ه وهو من تلامذة الخليل بن أحمد، هذا النوع من التأليف، فكتب كتابه "المثلث" الذي بناه على تغير معنى لفظة ما بتغير حركة أي حرف من حروفها، قائلاً ان المثلث هو اسم نراه في الكتابة واحداً ويمكن نطقه بأشكال عدة، بحسب تغير حركاته، وعرفه بأنه "ما اتفقت أوزانه وتعادلت أقسامه ولم يختلف الا بحركة فائه فقط أي أوله أو بحركة عينه فقط أي حرفه الثاني أو كانت فيه ضمتان تقابلان فتحتين وكسرتين". ومع ان كتاب محمد بن المستنير صغير الحجم، قليل المادة، إلا أنه يمثل الخطوة الأولى التي أرساها تلامذة الخليل على طريق فهم دور الحركات، وهي أصوات صغيرة أو أنصاف حروف، في بناء اللغة والكشف عن أصولها الأولى. ولذلك حظي كتاب "المثلث" بالاهتمام لدى علماء اللغة اللاحقين جداً. واضافة الى اهتمام العلماء بهذا الكتاب عني علماء آخرون بالتأليف في الموضوع ذاته، وقد أحصينا منهم، الى هذا اليوم، أكثر من خمسة وستين عالماً لهم كتب ما زالت في طوايا المخطوطات، أي في عالم النسيان، اذ نحن مشغولون بما هو أكثر أهمية من تعرفنا على تراثنا وعلى المادة العلمية التي تضع لنا وثائق لا تقبل النقض عن أصالة العربية وقدمها. واعتقد جازماً بأن التعرف على دور الصوت في تأسيس الحروف وتكوينها، من شأنه أن يقودنا الى تلك الأصوات الأولى التي سمعها الانسان القديم وقلدها وجعلها مهاداً لتطورات صوتية لاحقة تكتمل في الحروف ومعانيها. وهذه النظرة مستقيمة علمياً وليس فيها ما يناقض الآراء التي تختلف في تفسير اللغة ما بين كونها توقيفاً من الله تعالى، أم توفيقاً منه أو هي اختراع انساني. لأنه، وأياً كان الأمر، فإن الأصوات الطبيعية من حول ذلك الانسان القديم كان لها دورها الخطير في تكوين اللغة وتطويرها، وآية ذلك اختلاف الألسن وتنوع المعاني والدلالات، سواء للحروف أم للكلمات التي هي تجمع حروفي لا أكثر ولا أقل، أي انها تجمع أصواتي، يكتسب معناه بالاستعمال. ولعل من أكثر الكتب أهمية في تناول موضوع الأصوات القصيرة التي نسميها الحركات، وهي الكسرة والفتحة والضمة، كتاب ابن السيد البطليوسي، الذي يعود في أصوله الى أهل عمان أيضاً، ولكنه نشأ في الاندلس ومات فيها، في قريب من زمن الطبيب أبي محمد عبدالله بن محمد الأزدي صاحب كتاب "الماء". وكان مولد ابن السيد في سنة 444ه ووفاته في سنة 521ه. كتب البطليوسي كتابه على شكل معجم سماه "المثلث" واعترف في مقدمته بأن كتاب قطرب هو الذي أثاره لتأليف معجم شامل في الأصوات القصيرة، وذلك لأن كتاب قطرب صغير لم يتضمن شيئاً كثيراً من اللغة. ومن أجل أن يصل الى غايته في معرفة الحركات وحروفها وتغير دلالاتها، قسم الألفاظ الى قسمين: * الأول ما تتفق معاني الألفاظ على رغم اختلاف حركات الحروف. * والثاني ما تختلف معانيه من الألفاظ بحسب اختلاف حركات حروفه. والحق اننا حين نمعن النظر في القسم الأول لا نجد اتفاقاً في معاني الألفاظ حين تختلف حركات الحروف فيها. نعم هناك تقارب بين الدلالات، ولكن من غير تطابق تام الا إذا كان اللفظ يمثل لهجة من اللهجات كلفظ أنملة التي ينطقها بعض العرب بفتح الهمزة وبعضهم بكسرها وآخرون بضمها. وكيفما يكن الأمر فإن هذه الألفاظ لا تشكل الا نسبة ضئيلة من عدد مواد الكتاب. فإن عدد المتفق المعاني 128 جذراً لغوياً فقط، وعدد المختلف المعاني 695 جذراً لغوياً. ومعظم المتفق المعاني لهجات عربية، فكأنها لفظ واحد تختلف روايته. باستثناء حالات نجد أن الألفاظ مختلفة المعاني وأن البطليوسي لم يلتفت الى ذلك الاختلاف، أو لم يعده اختلافاً. ومما يستدعي الاعجاب بجهد البطليوسي انه تبين الفرق بين الأصوات اللغوية، ورآها مقسومة الى قسمين: * أما القسم الأول فالأصوات الساكنة وتسمى بالحروف. * والقسم الثاني فأصوات اللين أو الحركات. وعلى هذا القسم الثاني بنى كتابه "المثلث". وبدراسة متأنية للجذور اللغوية التي اختلفت معانيها باختلاف حركاتها مثل "الحلف" بفتح الحاء مرة وكسرها مرة وضمها مرة، واختلاف المعنى بحسب اختلاف الحركة في الجذور الثلاثة، وغير "الحلف" من ألفاظ المختلف المعاني، نتبين ان ليس جميع الحروف العربية قابلة للحركات الثلاث، حتى انه ليبدو لنا أن بعض الحروف قد وجد أصلاً ومعه حركته. وأدى الاستقراء الدقيق لعلاقة الحروف بالحركات الى هذه الملاحظات: 1- في مجموعة الأصوات الشفوية أكثر الحروف قبولاً لتغير الحركة هو صوت الباء، وبالتالي يصبح أكثر قبولاً لتغير معنى الجذر. 2- صوت الذال أكثر شيوعاً من الأصوات التي تخرج من بين الأسنان. 3- صوت اللام أكثر قبولاً لتغير الحركات في مجموعة الأصوات الأسنانية اللثوية. 4- صوت الراء أكثر قبولاً لتغير الحركة والمعنى في مجموعة الأصوات التي تنطق من اللثة. 5- صوت الجيم أكثر الحروف اللثوية الحنكية قبولاً لذلك. 6- صوت الكاف أكثر حروف أقصى الحلق قبولاً للتغير اللفظي والمعنوي. 7- صوت العين أكثر قبولاً لذلك في مجموعة الحروف الحلقية. ان هذه الحقائق وغيرها مما تكشفه دراسة المعجمات الثلاثية، أي التي جمعت الألفاظ بتغير الحركات الثلاث فيها، تضع بين أيدينا مادة جيدة للبدء في اعادة التفكير في مسائل اللغة التي لم يصل دارسوها الى قرار فيها كنشأة اللغة وتاريخ ظهور الحروف، وكيفية انتقال الأصوات الى حروف، ومتى كان ذلك، ثم متى امتزجت الحروف في ما بينها لتكون الكلمات. وذلك اعتماداً على النصوص والوثائق التي لا تقبل النقض مما نجده في نصوص تساعدنا في أن نؤرخ للظواهر اللغوية بمزيد من الجهد الذي تحتاج اليه هذه القضايا المتنازع عليها بشدة بين الأقوام، والتي كثيراً ما أخضعت لمتطلبات السياسة وضرورات حركة الاستشراق أو الاستعراب أو الاستغراب. وثمة مثال واحد يكفينا لبيان مدى الأهمية التي تكتسيها قضية دراسة الأصوات البسيطة والحروف المنفردة في تكوين الرأي اللغوي الجديد، ففي قوله تعالى "قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة" نلاحظ مجيء فعل الأمر قوا للجمع وقِ للمفرد وهو حرف واحد، ومثله إ من وأي يئي، وغيرهما... مما يدل دلالة واضحة على أن الحرف المجرد من غيره له دلالة ما، وهي موجودة حتى ان كنا نجهلها الآن، وأن تلك الدلالة قد تحققت من انتقال الحرف الى أداء معنى الفعل، فكم من معان ستتولد من تجمع الحروف وتشابكها؟ هذا مع الاستئناس بنظرية الاشتقاق التي ترى ان الحرف يدل على معنى ثم يأتي الحرف الآخر ليحدد ذلك المعنى، كما في قطع وقطف وقطم. فإذا سلكنا هذا النهج ووفرنا الظروف المواتية للبحث، مادياً ومعنوياً، فإلى أي مدى يمكن أن نصل في فهم لغتنا بدلاً من أن نترك الآخرين يدرسونها ونبقى اما عالة عليهم في ما يصلون اليه من آراء، واما ننقم عليهم ذلك؟ وأحسب أن هذا باب من العلم نافع ومفيد، وربما كان احياؤه وتشجيعه وتيسير عسيره تأكيداً لهوية هذه الأمة وحضارتها... وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم. * باحث وجامعي عراقي - لندن.