امتازت المجموعة القصصية (هنا القاهرة) للكاتب السعودي حامد أحمد الشريف الصادرة عن (منشورات جدل) بجوها السردي الساحر، والذي اختار لها هذا العنوان المكون من كلمتين في إشارة دلالية موحية بالمكان الذي جرت فيه معظم أحداث القصص التي تعكس السياقات المختلفة للمكان إلى جانب الغلاف الذي احتوى على صورة شارع رئيس مكتظ بالسيارات، والناس، والمباني المرسومة بطابع تأثيري؛ للتعبير عن المشاعر التي تختلج بها نفوس الناس الذين أهدى إليهم الكاتب مجموعته ص5:" ... إلى شعب مصر العظيم...". والتي تضمنت (18) قصة قصيرة في (139) صفحة عُنوِنت بأسماء مدن، أو عبارات من اللهجة المصرية. وعند قراءتي لهذه المجموعة المنسوجة بإحكام، شدّت انتباهي القصة الخامسة المعنونة ب(غصة في الحلق) والتي حملت بين طياتها الكثير من معاني الألم النابع من قضية إنسانية عميقة لا يقتصر وجودها على الحيز المكاني في النص بل تتعداه إلى العالم أجمع، وهي الطبقية المتمثلة في شخصية المرأة المتغطرسة، والتي طرحها الكاتب بإبداع فني فريد عبر تعدّد صوت الراوي الذي تنوع ضميره بين المخاطب، والغائب أثناء تنقله الانسيابي بين الشخصيتين الرئيستين اللتين جمعتهما المصادفة في وسيلة المواصلات الشهيرة في القاهرة (الحافلة) المكان المغلق المتحرك الذي يرمز إلى الأزمات والتقلبات النفسية التي يعيشها الإنسان في رحلة حياته. فاستهل القاص السرد بضمير المخاطب أثناء وصفه للشخصية الرئيسة المرأة بأبعادها الجسدية، والاجتماعية، والنفسية ص 39: " كان منظركِ مستفزًّا له وللجميع... على الرغم من اختبائكِ خلف تلك النظارة الشمسية الفخمة..." ثم انتقل بنا إلى ضمير الغائب بسلاسة، ودون إرباك للقارئ عند حديثه عن شخصية الطفل من ذوي الاحتياجات الخاصة الغارق في صمته، المكتفي بدور المتفرج: " كان الطفل يومها واجمًا ساهمًا، وبقي ساكنًا في مكانه على غير المعتاد لمن هم في مثل سنه." واستمر المبدع في استخدام الضميرين بخطين متوازيين على لسان الراوي العليم (سارد غير مشارك) الذي أظهر لنا الصراع الخارجي من خلال الحوارية بين المرأة، والأم الشخصية الثانوية الضعيفة المستسلمة حول المقعد الذي جلس عليه الابن، وتفاقم الصراع حتى أصبح بين المرأة، والركاب الممتعضين من تصرفها المتعالي، والذين يرمزون إلى المجتمع المصري المتعاطف ص42: "... كيف لكِ الخروج من هذا الموقف المخزي الذي تهاويتِ فيه وقد أصبح الجميع ضدك..." لقد برع الكاتب بأسلوبه المشوّق الذي مهّد لنا إلى ما سيحدث باستباق داخلي؛ فاستطاع إثارة فضولنا حول ما سيجري فيما بعد ص39: " لكنكِ أبيتِ إلّا أن تستعيديه مرة أخرى بالموقف الذي افتعلته مع تلك المرأة المسكينة..." كما أدهشنا بقدرته على سبر أغوار فضاء الطفل، وتصوير رؤيته للموقف من زاويته الخاصة، وكأنه عدسة كاميرا ترصد التحولات التي مرت بها شخصية المرأة حينما تنازلت عن تكبرها، ومحاولاتها البائسة في تبرير تصرفها الأرعن مع الأم الضعيفة؛ والتساؤلات التي تموج في عقله؛ والتي انتهت بتعاطفه مع المرأة المتعجرفة عند شروعها بالبكاء؛ لإحساسها العميق بالمهانة. هذا المشهد القائم على المفارقة أنهى به الكاتب نصه الإبداعي؛ حيث اختتم البناء السردي بصوت مختلف عن الصوت الذي بدأ به بفنية عالية، وبراعة نادرة. *قاصة وكاتبة وفاء عمر بن صديق*