بعنوانِ لا يحملُ أحد عناوين القصص، وعبر أربع عشرة قصة قصيرة، وفي أقلّ من ستين صفحة من القطع المتوسط (صفحات القصص) تأخذنا القاصة نوال السويلم في حافلة مجموعتها القصصية الأولى (بانتظار النهار) الصادرة عن دار أثر، المملكة العربية السعودية، الدمام، 2018. بغلاف يحمل لوحة امرأة لبيكاسو من المدرسة التكعيبية، فنكتشف أننا إزاء أسئلة وجودية، وظواهر اجتماعية، ومشكلات أسرية، عرضتها علينا المجموعة، بأسلوب فني متميز، شكل بصمة للقاصة، وتحاول هذه الورقة قراءة هذه المجموعة من خلال الأسلوب الفني الذي ظهرت به. ولعل أول ملاحظة يسجلها القارئ، هي قصر هذه القصص، فلا تتجاوز صفحات أطول قصة السبع صفحات، فيما تراوحت البقية بين الثلاث أو الأربع صفحات أو الست صفحات لقصتين فقط، ويعني هذا أنّ القصص قد خضعت للتكثيف الشديد، وتخلصت كثيرًا من الزوائد التي تثقلها، مما أضفى على المجموعة المزيد من الحيوية الفنية. يستغرق الزمن الكلي للقصة الأولى (سبعة) سبعة وعشرين عامًا، لكنّ السارد وهو بطل القصة يرويها خلال سبع دقائق فقط، هي المدة التي يستغرقها للوصول إلى سرير والده في المستشفى، تتلخص القصة في لحظة لقاء شاب في السابعة والعشرين من العمر ولد نتيجة (زواج المسيار) لوالده الذي طلب رؤيته وهو يحتضر، ولعل من الطبيعي أن يؤدي السارد الشاب دوره في السرد، لكن الخرق الفني جعل السارد يؤدي دوره في القص، وهو جنين في بطن أمه، وبأداء تمثيلي صامت ترتد الكلمات إلى حلقها محدثة ضجيجاً يفزع نومي! هواجسها وقلقها من ميلادي منبوذاً من أبيه تصلني عبر الحبل السري زاداً ليلياً تشكلت منه خلايا جلدي» ص 8. ويحدث تناوب إيقاعي في السرد بين الشاب في السابعة والعشرين، وبين الجنين وهو أمشاج في الرحم، ولأنّ السارد ولد لسبعة أشهر نجد في القصة توظيفًا فنيًا جميلاً للرقم سبعة، المقدس في عدد من حضارات، ويلحظ في القصة غياب تام لصوت الأم والأب، المتسببين لولادته، باستثناء جملة حوارية واحدة للأم، حتى الخطبة التي تعدها المرأة لزوجها نعرف تفاصيلها من خلال السارد، وليس من خلال الأم!! فهل يوحي هذا الغياب الصوتي بغيابهم عن التأثير الإيجابي في المجتمع؟!! وتحدث المفارقة عندما يصل غرفة والده في المستشفى « صافحني سرير يحكي أنّ ساكنه غادره منذ دقائق « ص 10. إذ يظن القارئ أنّ الأب هو الذي صافحة قبل أن يصل إلى الكلمة المباشرة سرير!! وكأن هذه الاستعارة جعلت والده مثل السرير في صلابة حديده! ويبدو لي أنّ القصة أرادت توصيل رسالة مفادها خطر زواج المسيار على العلاقات الأسرية بين الوالد وأولاده، دون أي تدخل من القاصة. ويجري السرد على لسان الشخصية الرئيسة أيضًا في القصة الثانية (الزومبي) وتعني كلمة الزومبي في السينما والمسرح الجثة التي تقوم من الموت لتؤدي أعمالاً أخرى، خاصة في أفلام الرعب، تبدأ القصة بجملة بين قوسين (ساذج وقلبه ميت) وهي الصفة التي يعرف بها نادل الفرقة المسرحية؛ لذلك رشحه المخرج أن يؤدي دور إنسان ميت في المسرحية التي يتمرنون عليها «لكثرة ما رددوا بأني إنسان متبلد الحس يحيا بلا شعور» ص 11. وتستثمر القصة المسرحية لتظهر تواشجًا قويًا بينها وبين الحياة الطبيعية للنادل «أنت في المشهد نكرة لا تعنينا، الحوار بين أقاربك هو هدفنا» ص 11. ومن الواضح أنّ المطلوب من الممثل أن يبقى ميتًا حتى نهاية العرض، لكنّ المفارقة تحدث عندما يقذف الممثل الرداء الذي سيغطى به « وانطلق لساني من حبسه، ووقفت أمام الجمهور وقلت ... « ص 12. هل تود القصة أن تقول إنّ الأشخاص أو الشعوب الذين نستخف بهم ل «شحوب وجهك واصفرار بشرتك» ص 11. لهم القدرة ذات يوم أن يتكلموا بصوت عالٍ على غير ما طلب منهم المخرج، ربما!! وتجري قصة (اعتراف أبيض) بين حبيبين «بينهما منضدة زجاجية وكأساً كوكتيل ...» ص14، ولعل موضوع هذه القصة مطروق كثيرًا، يظن الخطيب أنه يخفي عبثه المكشوف بعقد وزجاجة عطر، لكن سوء الفهم يقود الخطيبة أن تعترف اعترافًا أبيض بعلاقتها السابقة التي انتهت بلا رجعة، ويبدو أنّ قلب الرجل الأسود لن يغفر للأنثى هذه العلاقة السابقة، على الرغم من علاقاته العبثية المستمرة!!، وتنتهي القصة ولا يعلم القارئ «هل يوصلها لبيت أهلها الآن أم في الصباح!» ص15، ولعل الجديد في هذه القصة هو هذه التكثيف للحدث، واستثمار المكان في وصف مشاعر الأنثى «تحول المكان إلى دائرة ضبابية تومض فيها عيناها فقط ...» ص 14، ثم هذا التناص القرآني الجميل لوصف تهيؤ الرجل لعمله ضد الأنثى «فكر ثم قدر ثم قتل كيف قدر» ص 15، وهو تناص من سورة المدثر، الآيات 18 20. يتولى الراوي العليم مهمة سرد قصة (نيران صديقة) وهو عنوان مستعمل سابقًا في الرواية والتلفزيون، لكنّ القاصة استثمرته في قصة متميزة، كما أرى، من خلال توظيف الأسماء، لتصوير الجانب المخفي من الشخصية، إذ يكتشف الصديقان نبيل وشريف بعد أربع سنوات من دراستهما في الغربة، «فهما معاً جسدٌ واحد أو كما يحلو لهما أن يقولا: أنا وأنت واحد» ص16، أنّ لكل شخص منهما نقاط ضعف وتجاوزات وتحايلاً، لكي يستمرا في العيش، وفي لحظة تبادل النيران الصديقة هذه يكتشفان أنّ أيّ منهما لم يكن عدواً للآخر، بل هو مثال الصديق له، فهما نبيلان وشريفان مع بعضهما البعض، لكنهما لا يعترفا بهذه الحقيقة لأنفسهما، ولعل هذه القصة تصلح معالجتها ضمن علم النفس الأدبي، فلكل منا أخطاؤه وعيوبه وقذارته، ولكننا نحاول أن نخفيها أبدًا، فإذا حانت لحظة الانفجار أسقطنا عيوبنا هذه على الآخرين!! وتصور قصة (الكلمة الأخيرة) الصراع الأزلي بين المذكر والمؤنث، وأيهما أكثر فهمًا للحياة، لكنّ هذا الصراع الأزلي يحدث من خلال قصة بسيطة بحدثها، وزمنها هو الحياة الزوجية، فالزوج يهجس دائمًا بالموت، متى سيحدث؟ وكيف سيحدث؟ وأين سيحدث؟ وتحاول الزوجة التخفيف من قلقه من خلال اختيار فيلم جميل أو رواية يتبدل فيها مصير الشخصية الرئيسة، فضلاً عن تغذية حائطه في صفحة التواصل الاجتماعي، وتحدث المفارقة في نهاية القصة طبعًا. ويلحظ أنّ القصة جاءت بلا أسماء، وبلا مكان أو زمان، مما أضفى على القصة المزيد من البعد الانساني لها بوصفها تحدث في الأجيال والأمم والأفراد جميعًا. ونجد في عنوان قصة (الراوي العليم) توظيفًا موفقًا للمصطلح السردي الشائع، وهو راوٍ كلى المعرفة، يعلم الأحداث القصصية، وطبيعة الشخصيات ويسجل تصرفاتها وأقوالها، في شكل سردي، وهو يشبه كبير العائلة الذى يعرف كلّ شيء عن أبنائه وأحفاده، ويوزع عليهم الدور الذى يناسبهم من حيث الخير والشر، وقد استطاعت القاصة أن تعطي أبعادًا جديدة لهذا الراوي من خلال اختيارها للحافلة التي احتضنت القصة وهي تقوم برحلة داخلية في المدينة، إذ تروى القصة من قبل الراوي المشارك، وهو شخص يبحث عن مكان مناسب لا يضايقه أحد بثرثرته، وما إن يجد المكان مجاور شخص منهمك بقراءة الجريدة حتى يلتفت له هذا قائلا: «أنت غريب في هذه المدينة؟ ويبدو أنك أقمت فيها اليوم. نعم؟ كيف عرفت؟ وجهي مألوف في هذه الحافة، لا أحد يجالسني فيها إلا غريب. لم يتحاشاك الناس؟ لأني أعريهم!» ص27. وكأن هذا الشخص هو (الراوي العليم) كما في المصطلح، وكأن وظيفته في القصة ليست العلم فقط، بل تعرية تصرفات الأشخاص المشينة، لذلك يتحاشاه الناس! أي يتحاشون الحقيقة! وخلال مسير الحافلة يشاهد الغريب فتاة تبيع المناديل على الرصيف، وسرعان ما يعلم (الراوي العليم) أنّ الغريب يود لو ينزل من الحافلة؛ لينقدها شيئاً من المال!! فيجيبه الغريب، بلى. فيوضح (الراوي العليم) حقيقة هذه الفتاة « هذه محتالة لا يخدعنك هذا الطفل في أحضانها... مأساتنا نحن العرب نضع الأمور في غير موضعها!» ص 28. وتتكرر هذه الجملة أربع مرات في القصة، مع كل مرة يقول فيها الراوي العليم ملاحظته، فتصير لازمة للقصة، وتمنح السرد إيقاعاً جميلاً، فعندما يشاهد الغريب الأبراج الشاهقة في المدينة، يخبره الراوي العليم «هذه مقبرة فتش عن الإنسان فيها ...» ص28، وعندما يقرأ الغريب في الجريدة مقالاً طويلاً مجزءًا على خمس حلقات، يخبره الراوي العليم «مقال طويل يمكنك اختصاره في ست نقاط فقط ...» ص 29، وأخيرًا يتظاهر الغريب بالنوم كي يتخلص من ملاحظات الراوي العليم، ولكن تفوته محطة نزوله، فيخبره الراوي العليم «الحافلة تتوقف الآن في محطة وصولي، وأظنها تجاوزت محطة وصولك وأنت نائم! ص 29، وتنتهي القصة بالجملة نفسها «مأساتنا نحن العرب نضع الأمور في غير موضعها!» ص29، فمن هو (الراوي العليم)؟ وما الذي تريد القصة أن تقوله؟ من الممكن أن يكون (الراوي العليم) هو ضمير الإنسان، وكأننا قد بالغنا في الأخطاء، فلا نريد أن نلتفت له! وربما هو مراقب خارجي، منظمة لحقوق الإنسان، مثلاً، أو باحث موضوعي، يشير إلى مواضع أخطائنا، ولا نريد أن نلتفت اليه! وربما هو لا وعي الإنسان نفسه، إذ يختزن في أعماقه كل ما لا نريد أن نبوح به من أخطاء!! كل هذه الاحتمالات، وربما غيرها توحي بها قراءة هذه القصة، ومما لا شكّ فيه أنّ تعدد القراءات يؤكد حيوية النص، وانفتاحه على ثقافات إنسانية متعددة. ويلحظ أنّ الحافلة تسير في مكان وزمان غير محددين، وبلا أسماء للشخصيات، مما يوسع كثيرًا من دلالة النص، ويجعله صالحًا للقراءة والتأويل بحسب القارئ ومكانه وزمنه، لقد أشارت القصة إلى الخدع التي يمارسها المجتمع من أجل المال! وأشارت إلى زيف المظاهر الحضارية في المجتمع، فليس بالبناء الشاهق وحده يحيا الإنسان! ونحن نثرثر كثيرًا من خلال منشوراتنا، وما أحوجنا اليوم أن نعمل كثيرًا ونقول القليل فقط!! ويدو أنّ حافلة الحضارة قد تجاوزت محطتنا كثيرًا ونحن مازلنا نحلم، كما هي أحلام الرجل في الحافلة!! ولولا أنّ القاصة استعملت كلمة العرب في الجملة اللازمة للقصة، لقلنا إنّ القصة تنطبق على الأمم والشعوب الأخرى، لكننا الآن محددين بدلالة العرب فقط، وإنّ الحافلة تسير في أحد البلدان العربية؟ أو كلّها؟ وجاءت قصة (يرحلون شتاء) بصيغة الراوي المشارك أيضًا وهي قصة داخل قصة، ويستعرق زمنها عبر تقنية التداعي الحر، سنة كاملة تقريبًا، إذ يروي السارد الرئيس عن حادثة سير فقد فيها أصدقاءه الثلاثة، ونجا هو من الحادث، وهو يكتب في رواية الآن ويسرد لقاءاتهم سابقا «تخيلنا حياتنا كوميديا سوداء لو كتبها خالد وتراجيديا لو كتبها أحمد وقصة قصيرة جداً لو كتبها فهد، وحين تخيلوها كوميديا سوداء بقلمي انفجرنا ضاحكين! « ص 31 ولكنه يجد نفسه في المستشفى بعد أن عثروا عليه مصاباً بإغماء في سيارة متعطلة في الطريق، فيعود إلى وحدته في غرفته ثم يكتشف فقدانه للرواية، ولا يعلم أين فقدها؟ وحين يتابع «مسلسلاً درامياً عن رواية مثيرة كما يصفون لمؤلف مجهول كما يزعمون اسمها يرحلون شتاء كما يعلنون ..» ص33، لا يعترض وهو في حوار داخلي بينه وببن عقله على سرقة الرواية وتحويلها إلى مسلسل، وفقدانه لحوق الملكية والشهرة لكنه يقرر أن يقاضيهم؛ لأنّ الممثل الذي تقمصه دميم!! لتنتهي القصة بهذه الفكرة. من الممكن أن توحي القصة بعبث الأقدار في حياة الناس، ومن الممكن أن توحي بتعدد زوايا النظر للحياة فكل منا يراها بحسب رؤيته!! ومن الممكن أن توحي أننا في قصة هي جزء من قصة أوسع منها، لقد استطاعت القاصة أن تضفي على السرد درجة من الشعرية حين كررت جملة «وحدي معهم ...» أربع مرات، أما المرة الخامسة والأخيرة فجاءت بصيغة «وحدي في غرفتي...» ومما لا شك فيه أنّ هذا التكرار يوحي للقارئ بفداحة الفقدان، فضلاً عن الإيحاء الإيقاعي للقصة. ونشعر في قصة (لقاح) أننا أمام جدلية الصراع بين المدينة الصحراوية والبحر «فالمدينة الصحراوية التي قضيت فيها حياتي ملأت روحي عطشاً لحب المطر والبحر والماء، مدينة كلها تصحر، وجوه الناس عابسة، أرواحهم سوداء، السنتهم سكاكين حادة، كلامهم نفاق، ضحكهم سخف ...» ص39. وجاءت هذه القصة بصيغة الراوي المشارك أيضًا، وهو شخصية تواجه قلق الأسئلة وتبحث عن الإصلاح «أظن أنني وحدي من اكتشف سر الاستشفاء بشرب البحر دواء من أوجاع وآلام هذا العالم... وخيار مدينتي الصحراوية أن أضرب رأسي في أربعة جدران..» ص40، وتحدث المفارقة في نهاية القصة عندما يفشي لنا السارد بسره ف «حين تتشرب خلايا الجسد ملوحة هذا البحر المعجون بكل قبح وقذارة سيكتسب مناعة تقيه من شهوة إصلاح العالم « ...» ص41. ويبدو أنّ هذه الشهوة لن تتحقق أبدًا!! ولأول مرة تحضر الأنثى بوصفها (السارد المشارك) في قصة (مسؤولية) لأنّ قصة (رأس أنثى) التي تتحدث عن السيدة نون في زيارتها لصالون تصفيف الشعر جاءت بصيغة الراوي العليم، مما سلب الأنثى فرصة مناسبة للتعبير عن نفسها في مثل هذه الأماكن، فضلاً عن أنّ شخصيات القصة هن شخصيات نسائية، والأهم من ذلك أنّ القصة تعالج مشكلة المرأة في المجتمع «ما زالت المرأة تعيش حياة العبدة أو الأمة؛ فبالتالي ماذا يفرق بينها وبين جوانتانامو ... نحن ما زلنا في هذا السجن ولا أحد يسمع عنا متى سيفرج عنا لا ندري» ص25. ويبدو أنّ حظ الأنثى في قصة (مسؤولية) بوصفها السارد المشارك من الحظوظ الأوفر؛ لأنّ هذه القصة أطول قصص المجموعة فقد استغرقت سبع صفحات، وكأنما جاء هذا الطول ليعوض غياب الأنثى الساردة في القصص الأخرى! والأنثى في هذه القصة امرأة قوية، تختار ألوان الطلاء بنفسها، وتتحمل مزاج مديرتها في العمل، وتتحمل مسؤولية ابنتها الصغيرة، ولعل سرّ قوتها كما أرى هو في اعترافها في نهاية القصة بخطأ تعاملها مع سائق سيارة الأجرة «شعرت أن لساني هذه اللحظة سليطًا كلسان زوجي، وحاداً كلسان المديرة وطويلاً كلسان المناوبة، فقطعته وألقيته من النافذة لتدوسه السيارات بلا رحمة « ص48. ويلحظ على هذه القصة غياب الاسم عن المرأة التي تتحمل كل هذه المسؤولية، مما ولد تركيزًا أكثر على متابعة معاناة هذه المرأة، ويوحي غياب الاسم أيضًا، أنّ كلّ النساء في العالم يتحملن المسؤولية!! ونحن الآن مع قصة (ظلال باهتة) وهي من القصص الأطول في المجموعة فقد استغرقت خمس صفحات، ونحن الآن أيضًا مع السارد المشارك، وهي الأنثى، والأنثى هنا امرأة كاتبة، ولديها مشروع قصة «هذه هي السطور الأولى من سيرتي الذاتية التي عنونتها بظلال باهتة تبدو مملة كئيبة وليمة دسمة للنقاد المهووسين بتشريح النص وتفجيره وتفكيكه وديناميته» ص50، أي أننا إزاء قصة قصيرة تصنف ضمن ما وراء السرد، إذ يحصل تداخل بين القصة التي تكتبها الساردة، مع القصة الأصلية، وتتبنى القصة أيضًا جدلية الصراع بين الذكورة والأنوثة «هل توجد حياة لا يلعب الرجل فيها دوراً في صياغة معنى الأنوثة؟» ص53. وتنتهي القصة برفض قبول القصة للنشر، لكنّ الناشر يبدي رغبته في أن تعمل معهم مدققاً لغوياً لإتقانها علامات الترقيم!. ويلحظ في القصة هذه السخرية من بعض المناهج النقدية التفكيكية!!! أو من النقاد «وبعد أن اكتملت ظلالي، قال لي الناقد الكبير...» ص53. وتأتي قصة (#عشرولوجيا) بصيغة الراوي المشارك أيضًا، وهي قصة متميزة في طريقة سردها كما أرى، يرويها معلم لا يستسلم للمقولات الجاهزة، ويدعو إلى تطهير العقل، وألا يؤجر لأحد!!» أكرر كثيراً مثل هذه الكلمات على طلابي لأحرر تفكيرهم، وأحرضهم على الاكتشاف والتفكير ونبذ التبعية...» ص64. تتحدث القصة عن تناقل مواقع التواصل الاجتماعي «صورة لكائن غريب ممسوخ الخلقة رأسه رأس ذئب وجسده جسد إنسان مكسو بفراء أحمر، يطل برأسه خلف شجرة العُشَر» ص55، وهي صورة التقطها أحد الطلاب في المخيم الكشفي، ثم اختفى الطالب وصار في عداد المفقودين!! ويأتي التميز بطريقة السرد من خلال نقل السارد طرفاً من الضجيج الذي أثير حوله بعد أن لقب ب (#عشرولوجيا) على شكل منشورات أو تغريدات تحمل عنوان (#عشرولوجيا) عددها ثلاثة عشر منشوراً وتظهر هذه المنشورات أنماطا متباينة من التفكير والاتجاهات حول شجرة العشر، توزعت بين علم النبات والجغرافية وعلم النفس والأدب والتراث الشعبي والفقه «يوضح فضيلة الشيخ أن الجان يتشكلون في جسوم عدة على هيئة إنسان أو حيوان وعلينا أن نتعوذ منهم...» ص57. وتحمل القصة عدة رسائل منها: أن ثمة صراعاً بين رؤيتين في المجتمع، لذلك تغيب الرؤية التي تدعو إلى الأسئلة ونبذ التبعية الفكرية! ومنها أنّ الإنسان يغيب ويهمل من أجل قوى أكبر منه!! أما التناصات القرآنية التي استعملت في الحوار، فقد أضفت على القصة المزيد من الشاعرية «إني أرى ما لا ترون» قلتها للمدير وللمعلمين ، وقالوا لي: «تالله إنك لفي ضلالك القديم» ص59، وإذا كان النبي يعقوب في القرآن الكريم قد رأى الحقيقة من خلال الوحي، فإن السارد في القصة قد رأى الحقيقة من خلال البحث القائم على الأسئلة!! مما منح التناص وظيفة جديدة، وتنتهي القصة بمفارقة تحمل رسالة مهمة «وذات صباح حين كشفت وزارة الداخلية هوية المنفذين لعملية إرهابية بأحزمة ناسفة، كانت أجسادهم مكسوة بفراء أحمر وملامحهم كوجه ذئب جائع يتعطش لفريسته!» ص59، وهو ما لم تستطع كل المنشورات السابقة التوصل له، ولعل درجة التخييل العالية في هذه الصورة للإرهابيين، تمثل إدانة واضحة للإرهاب ومنابعه! وأما القصة الأخيرة (أمّ الحمام) فهي أقصر قصص المجموعة، وتروى من قبل الأنثى، السارد المشارك، وتجري أحداثها في مغسلة جامع (أمّ الحمام) وجوارها في مشهدين منفصلين، المشهد الأول والميت مسجى على المغسلة «منحوني بضع دقائق قالوا لي أدخلي سلمي عليه!» ص60، ولا نعرف سبب الوفاة وكأنه موت جدّ مفاجئ! حد أن تفشل المرأة في وصف الحزن! كما تقول، أما المشهد الثاني فكان «في الطريق لمركز التأشيرات الموحد بشارع أم الحمام، جامع الملك خالد عن يميني ومقبرة أم الحمام عن يساري والمسافرون إلى الله ينامون بسلام في مراقدهم بعد رحلة سفر لم يخططوا لها، كما أفعل الآن أتسول موافقة أمنية تخول لي زيارة بلد يملي علي شروطه...» ص61، إذ يمكننا أن نلمح هنا شدة المزج بين المقبرة والرحلة إلى الخارج!! فضلاً عن إدراكنا لعبثية الحياة، وكما في معظم القصص فقد أضفى التناص من محمود درويش «يطير الحمام.. يحط الحمام» بلا جواز سفر» ص61 المزيد من الشعرية على القصة. ومن ملاحظة سريعة للقصص نلحظ أنّ عشر قصص من أصل أربع عشرة قصة جاءت بصيغة الراوي المشارك، ويعد هذا النمط السردي الأقرب الى أدب الاعتراف؛ مما يضفى على النص مزيدًا من الشاعرية المتدفقة. وأنّ بعض القصص جاءت مصنفة بوصفها ما وراء السرد، مما زاد في درجة التجديد التي نسجلها للمجموعة. وأنّ بعض القصص حفلت بالتناص مع النص القرآني والشعر العربي؛ فأضفى عليها هذا التناص قدراً من الشاعرية. وقد أدت أسماء الشخصيات في القصص وظيفة فنية سواء في حضورها أم في غيابها. أما عنوان المجموعة (بانتظار النهار) الذي جاء بغير مطابقة مع أيّ عنوان لقصص المجموعة فقد شكل نقطة تجديد في المجموعة، فقد اعتدنا أن نعنون المجاميع القصصية بعنوان إحدى القصص، ومما لا شك فيه أنّ هذه العنونة لا تمثل كلّ قصص المجموعة، ولعل في عنوان المجموعة ما يوحي أننا ننتظر ضوءًا جديدًا يمثله النهار! وأما الملاحظة الأخيرة فهي أنّ القصص على الرغم من قصرها النسبي، قد صورت الحدث متكاملاً، وعالجت قضايا إنسانية عميقة، وأنها قد تجاوزت نطاق المحلية، والفردية، لتصير صالحة لتعدد القراءات والتأويل والدلالة لأكبر عدد ممكن من القراء، يختلفون في الزمان والمكان، ولكن يجمعهم الفن الأدبي الجميل، واحترام الإنسان، وهي الرسالة التي تود المجموعة إيصالها بكل تأكيد. ** **