(1) مدخل: تقول في شهادتها الإبداعية «القصة القصيرة لون أدبي راق جداً ورفيع المستوى حد الدهشة، فهي لغة تواصل حقيقي للناس على الأرض بعد الكلام العادي واختراع اللغة...». وتضيف: «فالجمال في لغتها وتصويرها وتراكيبها وفكرتها، وفي وميض جاذب يلتف بمن يسمعها ويصغي لها، وفي عبقرية مبدع يمكنه أن ينسجها في منواله ويخرجها تحفة فنية وأدبية رقيقة جداً». وتقول عن سمات القصة القصيرة: «تعتمد على وجود الشخصيات والموقف الإنساني الذي يسجل بالوصف والتصوير والتشويق والعقدة والحل..». بهذه الإرهاصات المعرفية عن القصة القصيرة وحولها، تقنعنا (عقيلة آل حريز) برؤيتها الثقافية عن هذا الجنس الأدبي/ السردي. ومدى معرفتها بالتقنيات الكتابية والفضاءات النقد/ سردية التي توصل هذا الجنس السردي إلى المقروئية الناقدة، أو القراءة المزاجية الاستطلاعية، أو القراءة الترفيهية. (2) تعريف: بين يديَّ «شيء يشبه الهمس» وهذا عنوان أحدث المجاميع القصصية للكاتبة/ المبدعة: عقيلة آل حريز، التي تفاجئنا – كقراء – بكينونتها الكتابية، فهي اسم جديد – عليَّ شخصياً – لا أعرفها، ولم أقرأ لها – من قبل – حتى أفضي نادي الباحة الأدبي بشيء من ذلك عندما طبع هذه المجموعة، واستضاف الكاتبة في أمسية قصصية تحدثت عنها الصحف والمواقع الإلكترونية. (3) منطلقات وغايات: لكل قراءة نقدية منطلقاتها، وفضاءاتها التي تشرع النوافذ نحوها وغاياتها التي تستهدف بلوغها، ولعل أبرز المنطلقات لهذه القراءة هي ما عرف – نقدياً – بالعتبات، ونعني بها الهامش الذي يحيط بالنص القصصي، أو الإضافات اللازمة التي تزيد النص القصصي إبداعاً وتوهجاً. لقد عرف جيرار جينيت، العتبة العنوانية بقوله: إنها «نقطة ذهاب وإياب إلى النَّص..» أي إشارات دالة ورامزة تفك مغاليق النَّص وغموضه!! وعرفها أحد الدارسين بقوله إنها «علامات دلالية تشرع أبواب النص أمام المتلقي للولوج إلى أعماقه»(1) أي إنها مداخل قرائية للوصول إلى أعماق النَّص. وهذا يعني أن العتبات أصبح لها شأنٌ في حال القراءة الناقدة لأنها تعين على التفكيك والتشريح للنَّص المبتغى. وفي هذه المجموعة القصصية التي نتعاطى فعل القراءة معها نجد فيها الكثير من العتبات ومنها العتبة العنوانية سواء عنوان المجموعة الرئيس، أو عنوان القصص الداخلية، ومنها العتبة الإهدائية، ومنها العتبات الافتتاحية وهي نصوص موازية تتعالق مع النَّص الأساسي أو تشير إلى تشابكاته وفضاءاته، أو هي اختيارات افتتاحية تتوج النَّص وتشي بما فيه من حبكة وغاية!! وهنا تدهشنا العتبات الافتتاحية التي جمَّلت بها القاصة/ المبدعة هذه المجموعة ففيها مفاتيح نصيَّة، ذات لغة راقية، تحيل إلى ما في داخل النصوص من ملامح ومعالم وتداعيات، وهي – بالتأكيد – مفاتيح لغوية فاتنة تصل بالمتلقي إلى اعتبارها شيفرات أو ثيمات يتماهى معها النص المابعدي ويتعالق بها. ويمكن أن نعتبرها جزءاً هاماً من النَّص القصصي ومؤسساً له أو معرفاً به. ويكفي للدلالة على ذلك تلك الافتتاحية التي قدمت بها للقصة الموسومة ب «فواصل للشجن» ص21-25، تقول فيها: «الذين يتحدثون معك.. لا ينبئونك بحجم الشجن الذي يرقد داخلهم وإن باحوا لك بما فيهم.. لكنهم يبلغونك أنهم يتوجعون.. فأرواحهم معلقة بسقف الذكريات دون أن يحسنوا التصرف حيالها» ص19. في هذا النص الماقبلي/ الافتتاحي تلفت نظرنا – النقدي – مفردة الحديث (يتحدثون معك) ومفردة الشجن (بحجم الشجن) ومفردة الوجع (أنهم متوجعون) وأخيراً مفردة الذكريات (معلقة بسقف الذكريات). وإذا تناولنا القصة بالتحليل والتفكيك سنلاحظ أن تلك المفردات هي مفاتيح نصية (ثيمات) تشير إلى المحتوى والمضمون فهناك (حديث) بين طرفين، وهناك (شجن) يتولد عن الحزن والألم والوجع الذي يخفيه الطرف الثاني والذي تحول إلى لازمة عنوانية صبغت القصة بصبغتها اللغوية، وهناك (ذكريات) تستدعيها الحوارية القائمة بين الطرفين، وكل ذلك في حبكة قصصية ماتعة، البيئة الزمكانية حاضرة، والشخوص مقنعون، واللغة السردية رقيقة، والسارد/ الراوي العليم مهيمن على مفاصل النَّص، الذي يتجلى فيه الموقف الإنساني، والعقدة، والحل، وتقنيات الوصف والتصوير!! (4) ملامح ومعالم: تحتوي هذه المجموعة على ست عشرة قصة، ينبئ عنها مسرد المحتويات ص5، ولكنها – في واقع الحال وبعد القراءة التصنيفية لمكنونها، والوقوف على جمالياتها – وجدنا أن القاصة/ المبدعة تمشي على مسافتين مختلفتين في فعل القَصَّ، فإحداهما تتشكل فيها بنية القصة وتراكيبها وسماتها بشكل واضح وهذه – إحصائياً – تمثل (9) قصص وهي العدد الأكبر وأسميها هنا: مسافة القَصَّ الحكوي. أما المسافة الأخرى فيتحول فيها النَّصُّ إلى بوح ذاتي، حديث الأنا/ النفس ويتحكم فيه سارد عليم يوصلها إلى درجة الخاطرة أو السيرة وأسميها هنا: مسافة البوح السِّيَري، وقد جاءت هذه المسافة عبر (7) القصص الباقية وهو العدد الأقل. وذلك حسب المسرد التالي: القص/الحكوي.. البوح/ السِّيَري.. أحب المطر.. فواصل للشجن.. النجم الذي أمتلكه.. جدتي لولو.. هوية.. فوانيس... اندلقت القهوة.. ريق جاف وميض من فرح. 1- أطير رغم صفعات المطر 2- قسمت المسافات 3- قوس الفرح 4- بطاقة دعوة 5- طقوس النهاية 6- عفوك.... 7- ذات وقت.... ولعل المسافة الثانية التي ضمت (7) نصوص بوحية/ سيرية يمكن أن تجمع في حيز واحد وفي عنوان أكبر وتقسم داخله إلى أقسام/ أجزاء (سبعة)، لأنها تتكامل وتتعاضد لتعطي للقارئ إحساساً بسيرة أنثوية ذات مقاطع سباعية!! والجميل هنا أن هذه الحكايات/ البوح ذاتية جاءت في المجموعة متتالية نوعاً ما، الأولى والثانية (ص 49-58) ثم تفصلها قصة، ثم الثالثة وحتى السادسة (ص 65-94)، ثم قصة ثم تكون الأخيرة السابعة (ص 105-110)!! وهذا يؤيد مقترحي السابق!! كما تتأكد هذه الافتراضات النقدية، بالمحاور والمضامين التي تحملها هذه السباعية/ البوح ذاتية. فهي تتجمع في صورة امرأة غير محظوظة بزوجها، تسود الخلافات النفسية والمعنوية علاقاتهما، وتصل إلى الطلاقات العاطفية، ثم تنتهي بالانفصال الحسي والمعنوي، وكل ذلك في لغة قصِّية عالية، وصور وصفية زاهية، وتشكيلات بلاغية رائعة. (5) جماليات فنية: وعبر هاتين المسافتين القصصيتين – والتي لم تكن في وعي الكاتبة/ المبدعة – فيما أعتقد – ولكنهما استنطاق قراءة نقدية فاحصة - تشكلت البنية النَّصِّية، أو الخطاب القصصي في هذه المجموعة. وهي بنية واضحة المعالم، متكاملة العناصر والسمات، فيها وميض جاذب، وإدهاش اللحظة وتشويق فني، ومفارقة زمنية، وعمق حدثي، واستبطان وجداني/ نفسي داخل ورامز لحقيقة وواقع القاصة المبدعة، ومجالها الوظيفي/ العملي كأخصائية اجتماعية يلجأ إليها المرضى استشارة واستطباباً وعرضاً للفضفضة النفسية!! وسنلاحظ - عبر هاتين المسافتين القصصيتين - الكثير من الجماليات الفنية، والتصاوير البلاغية، واللغة السردية المشوقة وما تنتهي إليه من عقدة وحل. وأولى هذه الجماليات، ما يسميه بعض النقاد بالنِّسْوِيَّة والتي أسميها (أنثوية) وتعني – فيما تعنيه – كتابة المرأة عن المرأة. ففي هذه المجموعة تبرز قضايا المرأة الأنثى، وإشكالاتها الحياتية (ذاتاً وأسرة ومجتمعاً) على يد كاتبة/ مبدعة أنثى!! وتتجلى هذه (الأنثوية) منذ عتبة الإهداء: يا غالية، أختي وغادة قلبي «أماني»، ضمير التأنيث، كما تتجلى من خلال الشخصيات فنجد (رواية)، الجدة لولو، أحلام، وما يدل أو يرمز للأنثى: الوالدة، الطفلة، العجوز المسنة، المرأة الخمسينية، أم زوجها، الجدة، المرأة، الصديقة... وذلك عدا الضمائر الدالة على الأنثى وهي كثيرة جداً تتمطى في كل القصص والبوح/ الذاتي، بحيث نستطيع الحكم على أن (النِّسوية) فضاء تستوعب هذه المجموعة القصصية!! أما ثانية تلك الجماليات فهي ذات ارتباط وثيق بالشخوص الأنثوية – أبطال الحكايات الذين يتمحور حولهن الخطاب القصصي وهو مسلك دال على ما تلاقيه الأنثى من قهر وجبروت وطغيان ذكوري فتلجأ إلى (الصمت)، فنجد المرأة (الصامتة) في قصة (قسمت المسافات) ص55، وقصة (قوس فرح) ص65، وقصة (طقوس النهاية) ص81، وقصة (عفوك.. لقد توقف الألم) ص89. إن هذا (الصمت) الأنثوي/ القصصي، فيه مفارقة ودهشة واستغراب!! فكيف للمرأة أن تصمت وأيان لها ذلك المسلك الحكيم!؟ فالمعروف أن المرأة هي الثرثارة وهي المتحدثة، وهي صاحبة الصوت العالي. ولكن الكاتبة، تعمدت أن يكون (الصمت) دالاً ورامزاً للكينونة الأنثوية المقهورة في مجتمع تتجلى فيه سمة الدكتاتورية والطغيان الذكوري والمجتمعي!! وأما ثالثة هذه الجماليات فهي اللغة الشعرية، والصور الوصفية التي تدل على مزيَّة فنية وجمالية. كما تدل على امتلاك الكاتبة جماليات المفردة والجملة والعبارة «تتجاوز فيها لغة التقرير إلى لغة التعبير، وتسعى للكشف عن العواطف والأحاسيس والانفعالات الكامنة» كما نجد فيها «قدرة على إثراء اللغة، وتفجير طاقاتها، وإقامة الروابط المجازية بين مفرداتها، وكسر حاجز الجمود..»(1). فمثلاً قولها: «غريب أمر هذا الشتاء، يجيئنا ببخل لم نعهده، يخبئ غيماته بعيداً عن وجه الأرض، يأتي وفي وجهه اكفهرار ما، يتجاوزنا سريعاً بعد مرور مفروض وأخيراً يقطرنا بملل» ص11. وقولها: "لم أهتم.. فنداءات المطر تتوالى فوق رأسي.. عانقت المطر.. تبللت تماماً.. وجهي مددته للسماء، تجلى لي ضباب وضوء وتقافزت حبات المطر تصافحني" ص14. وقولها: «عشنا تراكم الخيبات حتى امتلأت حواشينا بفواصل الشجن فبيني وبينه رقص الوجع على حواف الروح فانهزمت مشاعرنا. خالية إلا من صحف الحزن المتراكمة» ص24. وقولها: «أخيراً استعدت حريتي، وفردت جناحي، أمررهما على الهواء، وهأنا أطير مجدداً تحت صفعات المطر» ص52. وأخيراً قولها: «كبرت وفي كفها قمر يكتمل يتطلع للعالم من نافذتها التي تركتها مواربة ترسل من جيوبها المفتوحة كل هذا العبق تلتقطه كنجمة شاردة.. تتسلق السنون النافرة في رحلة تحتضن الوميض المندس في زوايا ذكريات مشحونة بانفعالات صاخبة» ص128. ومن خلال هذه المقتبسات النصيَّة، تظهر لنا، قدرة القاصة/ المبدعة على تشكيل الصورة الفنية من خلال الألفاظ والعبارات، مستخدمة طاقات اللغة وإمكاناتها الدلالية والتركيبية للوصول إلى التكاملية في البيئة السردية والبناء القصصي، وإظهار الأحاسيس والمشاعر واختلاجاتها في الذات الأنثوية، وهذا يعطي قيمة جمالية للنَّص المكتوب. (6) ختام: ... وبعد، فهذه مشاكسة نقدية، مع خطاب سردي أرادت له المبدعة/ عقيلة آل حريز أن يكون متناً في قالب القصة القصيرة، ويزداد سمواً عبر لغته الشاعرة وأوصافه التصويرية البلاغية، وأحداثه وشخوصه المنطلقة من الواقع والمتماهية مع المخيال الحكائي المستفيد من ثقافة الكاتبة ومعارفها (النفس/ اجتماعية)، وفضاءً مفتوحاً يستوعب الزمكانية، والسَّاحة المحلية، والبيئة الجمالية، لنُقِرَّ نحن – النقاد – أننا أمام عمل سردي يملك توهجاً وتفرداً وإبداعية أطلقت عليه القاصة عقيلة آل حريز «شيء يشبه الهمس» ولكنه جاء عبر صوت موح منسجم، مما يجعلني – كقارئ – أقول: إنني أمام تراتيل أنثوية ذاتية.. فيها من السيرية، والبوح، والقَصَّ ما يشي بروح الأسرة في مجتمعنا وأسها الأول (المرأة والرجل) حيث نجد فيها الكثير من التجاذبات واللوعات وربما الخيبات!! ولكن القاصة أوصلتنا إلى بر الأمان بكل أنثوية، ونسوية أدبية، ولغة وصفية راقية، استحقت معها هذه القراءة الناقدة.