حكاية المرأة المبالِغة في إظهار صلاحها لإخفاء فساد سلوكها حكايةٌ من حكاياتنا الشعبية الجميلة ذات المغزى الأخلاقي، وتتناول موضوعاً اجتماعياً حسّاساً هو النفاق الديني أو الأخلاقي بإظهار الشخص للصلاح والفضيلة لإخفاء ما يمارسه من فسادٍ ورذيلة. وقد وردت الحكاية في العديد من المدونات الشعبية السعودية بصيغ متنوعة تتباين في شيء من التفاصيل والجزئيات، لكنها تلتقي في نقاط أساسيسة، وفي تأكيدها على أن إسراف المرء في إعلان استقامته قد يكون مؤشراً واضحاً يساعدنا على الاستدلال على انحرافه. صيغ الحكاية الأولى صيغة حافلة بالتفاصيل عنوانها (الأرملة وذكر العصافير) أوردها الشيخ عبدالكريم الجهيمان في كتابه (أساطير شعبية من قلب جزيرة العرب). الثانية مُقاربةٌ لصيغة الجهيمان وبأحداثٍ أقل دوّنها الشيخ محمد بن ناصر العبودي تحت عنوان (الزود أخو النقص) في كتاب (مأثورات شعبية). الثالثة نجدها في كتاب (ذاكرة الفواجع المنسية: أساطير وحكايات شعبية من تهامة والسراة) للأستاذ محمد بن ربيع الغامدي، وعنوانها (أبو قطنه). الرابعة صيغة موجزة أوردها الدكتور سمير الضامر بعنوان (سدرة العصافير) في كتابه (احزايه: ما روته عايشة بنت صالح الفرحان لحفيدها سمير الضامر). تحت السدرة في صيغة الجهيمان يعيش بطل الحكاية، مع أمّه المتظاهرة بالتقى والعفاف، في بيت ضمَّ فناؤه «شجرة سدر كبيرة»، وكان كبار السن والعابرون يستظلون بما امتدَّ من أغصان الشجرة خارج حدود المنزل، فطلبت الأم من ابنها أن يقطع السدرة بحجة أنها تجمع أوباش الناس والفضوليين، ولعدم اقتناعه بحجتها أخبرته بأن دافعها لهذا الطلب هو تجسس ذكور العصافير عليها ورغبتها في صيانة دينها، وقالت له: «لاحظت أن العصافير يتجمعن في هذه السدرة ولاحظت بشكل خاص أن ذكور العصافير تنظر إلي، وقد أكون في كثير من الأحيان غير متحفظة فينظر ذكور العصافير إلى ما لا يحل النظر إليه». وقد صدّق الابن المخدوع كلامها ووافق على قطع السدرة مباشرةً وهو لا يعلم بالدافع الحقيقي لطلبها، وهو أن لها عشيقاً تود أن يخلو لها المكان لاستقباله، وبعد مدّة اكتشف الابن الحقيقة الصادمة حين عاد في أحد الأيام في غير الوقت المعهود لعودته فوجد أمّه مع رجل غريب في وضع مريب، فقرّر الخروج لمدينة أخرى. وتخبرنا صيغة العبودي بأن الابن يعمل نجاراً من دون تحديدٍ لنوع الشجرة التي طالبت الأم بقطعها، وتتفق مع صيغة الجهيمان في أن دافع الأم لطلب قطعها هو أن يخلو لها الجو مع صاحبها، كما تتفق معها في أن الابن قرر الهرب بعد معرفته بحقيقة أمّه التي اتخذت «من المبالغة في إظهار التدين وسيلة لستر مخازيها». أما صيغة الغامدي فتحكي أن الأم الأرملة تظاهرت بالحزن ثم أمرت ابنها الذي «يعيش على حرفة الاحتطاب» قائلة: «اقطع هذه السدرة الملعونة»، وقد استجاب لطلبها وهو لا يعلم السر وراء موقفها المفاجئ من السدرة، وبعد قطعها أخبرته بالسبب المزعوم: «كنت نائمة في الحوش، وعندما رفعت رأسي رأيت غراباً على السدرة ينظر نحوي، ولما كنت في أقل القليل من ملابسي فقد ساورتني الشكوك في نية الغراب، وفي نوايا كل الطيور التي تحط على السدرة فتهتك سترنا». وقد هلّل الابن وكبّر إعجاباً بتديّن أمّه وحرصها على المحافظة على عفّتها، وبعد شهور شاهدها صدفةً وهي تُطلُّ من نافذة من نوافذ بيته وتسرق مشطاً ومكحلة من بائع حاجيات النساء الواقف بجوار النافذة، فقرّر تحت تأثير الصدمة ترك بيته والسفر إلى «القرية الكبيرة». وفي الصيغة الأحسائية الموجزة التي دوّنها الضامر تطلب الأخت من أخيها قطع السدرة قائلة: «ياخوي العصافير يتكشفون علي، وأنا أصلي، وإذا جيت أروح أتوضا». وعندما أخبر بعض جيرانه بكلامها الغريب وطلبها نصحوه بمراقبتها لمعرفة حقيقتها، وقد تبيّن له وجود علاقات مشبوهة للأخت فسارع لمعاقبتها، وعند هذا الحد تنتهي الحكاية. اللصوص الأتقياء في صيغة الجهيمان وصل بطل الحكاية إلى مدينة كبيرة مُحاطة بالبساتين ثم عمل مساعداً لصاحب بستان، وفي يوم الجمعة ذهب لتأدية صلاة الجمعة فمرّ بثلاث شخصيات تمارس كل واحدةٍ منها سلوكاً غريباً ظاهره التديّن: الأولى رجل يسقي بستانه وكان «يغرف الماء في أحواض الزراعة ويعد الغرفات»، وقد فسّر هذه الطريقة الغريبة لبطل الحكاية فقال: «إنني أسقي الأحواض بالتساوي فلا أزيد حوضا على حوض خشية أن أحيف فيحاسبني الله على جريمة الحيف والظلم وتفضيل بعض الأحواض على بعض». الثانية رجل يمشي حاملاً عصاً علّق في أعلاها أجراساً تُصدر صوتاً عالياً، وقد فسّر ما يفعله بالقول: «إني لا شك أمر في طريقي ببعض الدواب والحشرات والنمر وأخشى أن أقتل شيئاً منها بقدمي دون أن أشعر فيحاسبني الله على قتل نفس بغير حق». الشخصية الثالثة رجل منتعل يمشي إلى المسجد حاملاً إبريق ماء، وبيّن بأن الطريق لا يخلو من النجاسات والقاذورات، وأضاف: «تعلم أن الأقدام تثير غباراً وأن غبار النجاسات نجس، ولهذا فأنا أحمل معي هذا الإبريق لأغسل قدمي وساقي عند المسجد فأدخله وأنا طاهر من النجاسات وغبارها». وعندما سمع بطل الحكاية بنبأ سرقة خزانة السلطان ورصدِ مكافأة لمن يدل على اللصوص استنتج بأنهم هم الرجال الثلاثة الذين شاهد مبالغتهم في «التقوى والإيمان» ولاحظ تظاهرهم «بالعفاف والورع حد الهوس»، كما ربط تظاهرهم بالتدين لإخفاء جريمتهم بحادثة أمّه، وقد أخبر السلطان بما استنتجه فقُبض على الثلاثة واعترفوا بجريمتهم بعد التحقيق. في صيغة العبودي يُقابل بطل الحكاية رجلين تثير تصرفاتهما استغرابه: الأول رآه يسقي الزرع في أحد البساتين وكان يُظهر الخشوع ويكثر التمتمة بالتسبيح، وعندما أراد الخروج من البستان إلى حدود بستان آخر «أخذ خلالاً فجعل يُخرج ما تحت أظفاره من التراب»، وعلّل ذلك بالقول: «إنني رجل أخاف الله وإنني لذلك أخرج ما تحت أظافري ... حتى لا أغتصب هذا التراب وأعطيه آخر يقع في أرضه». وكان الرجل الثاني يمشي وبيده عصا علق عليها تسعين جرساً ذكر بأنها لتنبيه الذرّ ومخلوقات الله الصغيرة خشية أن يأثم بقتلها! أما في صيغة الغامدي فرأى بطل الحكاية رجلاً عجيباً في مُصلّى العيد كان «يمشي بلا حذاء لكنه يبطن قدمه بلفافات من القطن»، وكان يسير ببطء شديد مُتفحصاً موضع قدمه في الأرض، وعرف من شيخ القبيلة الذي سُرقت نعامته بأن الرجل يُسمى «أبو قطنه» بسبب القطن الذي يلف به قدميه لكيلا يطأ النمل فيتحمل إثم قتله! وصيغ الحكاية تؤكد على وجود أشخاص يبالغون في تظاهرهم بالتدّين والصلاح لإخفاء انحلالهم وستر سلوكهم الفاسد عن أفراد المجتمع، كما تُلمح إلى أن المناسبات الدينية كصلاة الجمعة أو صلاة العيد يمكن أن تُهيئ لنا النظر إلى نماذج شبيهة بشخصية صاحب الأجراس أو بشخصية «أبو قطنة» من مسافةٍ قريبة. محمد العبودي محمد بن ربيع الغامدي سمير الضامر بداح السبيعي