وتقابلنا في مدونات شعبية سعودية أخرى ككتاب (أساطير شعبية من قلب جزيرة العرب) للشيخ عبدالكريم الجهيمان حكايات عديدة وردت عند إيسوب، فتحت عنوان (الغراب وأبو الحصين) أن الغراب دعا الثعلب للغداء، ثم عمد إلى نخلة فأخذ منها رطباً غرس كل ثمرة في رأس شوكة من أشواك شجرة السلم، ولم يستطع الثعلب تناول شيء من وجبته بسبب وخز الأشواك الحادة، لكنه تظاهر بالشبع وشكر مضيفه الغراب الذي بدأ بالتهام كامل الوجبة بسهولة واستمتاع. وفي اليوم التالي لبّى الغراب دعوة الثعلب، ليجده قد صنع له وجبة دسمة اسمها "الرغيد" تُصنع من الدقيق الحنطة والماء والسمن، وقدّمها له بصبّها فوق "حجر أصم مسطح"، وكاد منقار الغراب ينكسر من ضربه في الحجر من دون أن يتمكّن من أكل شيء من الوجبة التي وصفها الراوي بأنها: "طعام رخو لا تستطيع الكف أن تمسكه وإنما يؤكل لحساً باللسان أو رشفاً من الإناء أو غرفاً بالمغرفة"، وفي نهاية الحكاية تظاهر الغراب بالشبع فنهض الثعلب ولحس الرغيد بلسانه إلى أن أتى عليه. أما في حكاية إيسوب فإن الثعلب هو من بادر إلى دعوة طائر اللقلاق للعشاء، ووضع الطعام على "لوح أملس من المرمر"، لذا لم يستطع الضيف تناول الطعام نظراً لطول منقاره والطريقة الاحتيالية في تقديم الطعام، وقد ردّ اللقلاق بأن دعا الثعلب في اليوم التالي ثم قدم له "إبريقاً طويلاً مليئاً بالحبوب الطرية"، وحين عجز الضيف عن الوصول إلى الطعام مد اللقلاق منقاره وتناول الوجبة الشهية بكل سهولة. وكما نلاحظ فقد كيّف الراوي، في صيغة الجهيمان، الحكاية باختيار حيوانات ونباتات وأطعمة تنتمي للبيئة الصحراوية التي تروى فيها الحكاية وهي بيئة وسط السعودية، كما ترد صيغ سعودية أخرى لهذه الحكاية من بينها الصيغة التي دونها العبودي في (المأثورات الشعبية) تحت عنوان (الغراب يغلب الثعلب)، إذ جاء في مستهلها أن الغراب لم يستجب مباشرة لدعوة الثعلب له على الغداء، واشترط ألا يُقدم له جيفة أو بقايا فريسة أسد أو ذئب، وعقّب على شرطه بالمثل الشعبي: "عندنا عيش، وعندكم عيش، تعزموننا على إيش؟"، لكنه انخدع بكلام الثعلب وحضر هو وأصدقاؤه الغربان، فوجدوا بأن الثعلب خدعهم بتقديم وجبة "عصيدة" على صخرة ملساء، وقد عزم الغراب على رد الصاع صاعين فدعا الثعلب وأصدقاءه الثعالب وقدم لهم قطعاً من التمر غرسها في أشواك شجرة العوسج التي طال شوكها "حتى صار كالمسامير بحيث لا يستطيع الاقتراب منه حتى البعير". وأورد الأستاذ مفرج بن فراج السيد صيغة موجزة للحكاية في كتابه (قصص وأساطير شعبية من منطقة المدينةالمنورة) ضمن حكايات عديدة عنوانها (قصة الثعلب أبي الحصين مع الغراب) وهي صيغة موجزة تهمل كثيراً من التفاصيل، لكنها تبدأ بداية مختلفة بتظاهر الغراب بمعرفة الثعلب وإيهامه بأنه صديق لوالده، ثم أقنعه بقبول دعوته، وبعد قبول الثعلب لدعوة الغداء قدم له الطعام على "شجرة صغيرة كثيرة الشوك"، من دون تحديد لنوع الشجرة ولا لنوعية الطعام، وقد ردَّ عليه الثعلب بأن دعاه وقدّم له طعاماً لم يذكر الراوي نوعه على "حجر أملس صلب". وحكاية (أبو الحصين والذيب والأسد) عند الجهيمان هي إعادة صياغة لحكاية إيسوبية شهيرة جاء فيها أن الأسد والحمار والثعلب خرجوا للصيد، ثم طلب الأسد من الحمار أن يقسم الصيد الوفير بينهم، فقسّمه إلى ثلاثة أقسام متساوية، لكن الأسد غضب منه ووثب عليه وأكله، ثم طلب الأسد من الثعلب القسمة فجمع كل الصيد في كومة واحدة وأبقى بعض الأشياء التافهة لنفسه، وعندما سأله: "مَن الذي علّمك أن تقسم الأشياء على هذا النحو؟" أجاب الثعلب: "علمني ما حدث للحمار". وتشترك صيغة الجهيمان مع حكاية إيسوب في مغزاها مع توسعها الواضح في وصف رحلة الصيد وما جرى فيها من أحداث، واستبدال شخصية الذئب بالحمار، فبعد أن طلب الأسد من الذئب القسمة قال الأخير: "الغزال لك والأرنب لي والجربوع لأبي الحصين"، فغضب الأسد وضربه على رأسه بقوة فسقط ممداً ومات، وعندما طلب من الثعلب القسمة قال: "الأرنب لفطورك والغزال لعشائك والجربوع فيما بين ذلك"، وعندها سأله الأسد المعجب بهذه القسمة: "من علمك هذا القسم المنسمح؟"، أجاب: "هذا الذئب المنسدح"! وأشار الأستاذ محمد السيد، تعليقاً على صيغة الحكاية التي أوردها والده الأستاذ مفرج السيد، إلى مصادر عديدة وردت فيها هذه الحكاية، من بينها: (المستطرف)، و(حياة الحيوان الكبرى) للدميري، و(كتاب الأذكياء) لابن الجوزي، إضافة إلى حكايات إيسوب. وقد جاء في ختام الصيغة التي أوردها السيد أن الأسد خاطب الثعلب بعد القضاء على الذئب قائلاً: "أشهد أنك من بيت علم وعدل وقضاء، ولكن من علمك هذه القسمة، فقال الثعلب: تعلمت من التاج الذي وضعته على رأس الذئب". وذكر الجهيمان في الجزء الثاني من أساطيره حكاية (تفو عليك حامضة) وهي قصة مثل شعبي عن الثعلب الذي اشتهى عنقود العنب ورغب فيه بقوة لكنه عجز عن الوصول إليه لارتفاع مكانه، فنظر إليه و"جمع ريقه ثم قذفه بقوة إلى ذلك العنقود مردفاً ذلك بقوله: تفو عليك حامضة". وقد وردت حكاية (الثعلب والعنب) أيضاً في حكايات إيسوب، وأشار العبودي في كتابه (الأمثال العامية في نجد) إلى العديد من مصادر الحكاية أثناء شرحه للمثل الشعبي: "تف عليك حامضة"، وذكر أن "أصل ذلك كله خرافةٌ يونانية وردت في خرافات أيسوب"، ونقل أبيات الشاعر العربي المتعلقة بهذا المثل: أيها العائبُ سَلمى أنتَ عندي كثُعَاله رامَ عُنقوداً فلَمَّا أبصرَ العنقودَ طاله قال: هذا حامضٌ لما رأى أنْ لا يَنَالَه وللحديث عن حكايات إيسوب في مدونات الحكايات الشعبية السعودية بقية إن شاء الله. عبدالكريم الجهيمان الذيب شراسة وقوة بعيد المنال (تف عليك حامضة) ذكاء الغراب يفوق غيره