أشرت في مقالات سابقة إلى أن النظام العالمي يمر بمرحلة انتقالية، وأهم سمات المرحلة الانتقالية هو السباق بين الدول الرائدة على الزعامة لاحتلال المراتب الأولى في كافة المجالات، وبدون شك، فإن مجال الاقتصاد هو أهم المجالات، لأن بقية الأنشطة تعتمد عليه - فإذا كان الاقتصاد قوياً زادت النفقات على الصحة والتعليم والدفاع وبقية المجالات، والعكس بالعكس. ولذلك، كانت مفاجأة، التصنيفات التي تم الكشف عنها الأسبوع الماضي والتي تشير إلى خروج المملكة المتحدة من قائمة أكبر 10 اقتصادات صناعية في العالم. فهذا يحدث للمرة الأولى، منذ الثورة الصناعية، التي قادتها المملكة المتحدة، وجعلتها على رأس قائمة العالم تقدماً ورقياً، ولهذا فليس مصادفةً أن يتزعم هذا البلد النظام العالمي لفترة طويلة، وتصبح عملته الجنيه الإسترليني هي العملة الرئيسة للتجارة العالمية كما هو حال الدولار اليوم. ولكن منذ أن فقدت لندن زعامتها للعالم وحتى الآن تغيرت أمور كثيرة، فالمملكة المتحدة اليوم من حيث القيمة الاسمية للناتج المحلي الإجمالي هي سادس أكبر اقتصاد في العالم، أما من حيث القدرة الشرائية، فإن ترتيبها العاشر. ولذلك، ربما ينعكس تراجع تصنيفها الصناعي على تصنيفها الاقتصادي، فتخرج من قائمة أكبر 10 اقتصادات في العالم من حيث القدرة الشرائية. إن ترتيب المملكة المتحدة صناعياً كان وإلى الأمس القريب هو الثامن، ولكن روسيا أخذت هذا الموقع وصارت ثامن أكبر اقتصاد صناعي في العالم، في حين تراجعت هي إلى 12، فرغم أهمية الصناعة في المملكة المتحدة، حيث إنها تولد قيمة مضافة تصل إلى 217 مليار جنيه إسترليني وتساهم في توظيف 2.6 مليون عامل وموظف، فإن هذا البلد ومنذ مجيء مارغريت تاتشر صار يعطي اهتماماً أكبر لقطاع المعلومات والخدمات، بحيث أصبح اقتصاداً قائماً على المعرفة والخدمات. وعلى أية حال، فإن هذا التوجه الجديد في الاقتصاد له إيجابياته وسلبياته، فالاقتصادات التي تعتمد على ما يسمى بالقطاعات الحقيقية، وعلى رأسها الصناعة، قد حققت إنجازات وتقدماً هائلاً خلال ال20 عاماً الماضية كما هو حال الصين والهند، فعلى ما يبدو إن قطاع المعلومات والمعرفة مهم، إذا ما تم تسخيره لتطوير القطاعات الحقيقية وليس بديلاً عنها. إن البلدان التي يعتمد اقتصادها على القطاعات الحقيقة من المتوقع أن تتقدم خلال الفترة القادمة بالاعتماد على المعرفة التي سوف تسخر لإعطاء دفع للثورة الرقمية التي سوف تساهم في تقدم الصناعية وتحقيق الثورة الصناعية الرابعة - أو العصر الصناعي الرئيس الرابع منذ الثورة الصناعية الأولى في القرن الثامن عشر التي قادتها المملكة المتحدة. ولذلك، فإن عدم اهتمام هذه الأخيرة بالصناعة وعدم وجود استراتيجية صناعية لديها سوف يساهم في تراجعها وفقدانها السابق ضمن أهم الدول الرائدة في العالم.