أميركا اليوم تدفع ثمناً حضارياً باهظاً، فالمستويات الحضارية الاجتماعية والصحية المتقدمة غيرت من معادلة العمر، فأصبح الناس يعيشون لعمر أطول، ولذلك أصبح السياسيون في أميركا يمضون السنوات في سبيل تجميع السلطة لصالحهم، وهذا ما جعل تخليهم عن مواقعهم السياسية في الوقت المناسب قضية معقدة.. اللحظة التي تمر بها أميركا اليوم تاريخية، فالارتباك الظاهر على المرحلة الانتخابية الحالية مثير للأسئلة الحادة من أجل الوصول إلى تفسير واضح لما يحدث في الانتخابات الأميركية، ولعل السؤال الرئيس يدور حول المسؤولين عن الفشل في كشف مرحلة التقدم في العمر التي تمر بها السياسية الأميركية خاصة في الكونغرس الأميركي والبيت الأبيض ووسائل الإعلام والنخب الأميركية، لقد كانت المؤشرات واضحة بأن أميركا سوف تصل إلى هذه النقطة المفصلية. لقد كشفت المناظرة التي كانت بين الرئيس بايدن والرئيس السابق ترمب أن أسئلة السياسية الأميركية تتطلب إعادة ترتيب من جديد، وأن يتم إدراج مصطلحات مختلفة للتأكد من أن سباق الرئاسة الأميركي يتمتع بصحة جيدة، لقد أصبحت حالة التجمد في الكلام سمة سياسية أميركية أصابت المرشحين لانتخابات 2024م، فحتى الزعيم الجمهوري السابق في مجلس الشيوخ ميتش مكونيل أصابه تجمد وتوقف عن النطق في أحد المؤتمرات الصحفية السابقة لما يقارب من نصف دقيقة، ولم تكن تلك هي المرة الأولى التي تحدث أمام الكاميرات، فمثل هذه اللحظات غير مريحة ليس لأميركا وحدها وإنما للعالم، لأن فقدان الوضوح اللحظي أمر سياسي محرج. هذه الحالة السياسية "فقدان الوضوح اللحظي" أو بلغة أخرى انعدام التركيز، بدأت تظهر بوضوح وعلى نطاق أوسع في فضاء السياسية الأميركية التي تستعد اليوم للدخول إلى مسار تظهر فيه شخصيات أميركية هم في الواقع كبار في السن وفي الوقت ذاته لا يبدو أن لديهم نية للتخلي عن مناصبهم في ساحات السياسية الأميركية وأروقتها سواء في البيت الأبيض أو مجلس الشيوخ أو البرلمان، وعندما نستعرض معدل الأعمار نجد أن الرئيس جو بايدن في عمر الثمانين وفي الوقت ذاته يقف في مواجهة رئيس سابق -ترمب- يريد استعادة السلطة بينما هو الآخر يقترب من الثمانين عاماً، بالإضافة إلى مجموعة ليست بقليلة من كبار السن البعض منهم تجاوز الثمانين عاماً ويتوزعون في أروقة المجالس الأميركية (الكونغرس)، وجميع هؤلاء تم الحكم عليهم من خلال حالات التدهور المعرفي التي مروا بها خلال ظهورهم في الأماكن العامة أمام الناس. حالة الكبار في السن تضاعفت في السياسية الأميركية منذ بداية هذا القرن، فخلال السنوات الماضية ظهرت شخصيات عديدة، فمثلاً في العام 2010م تقاعد ستروم ثورموند من مجلس الشيوخ وهو ممثل عن ساوث كارولينا، بينما كان يبلغ من العمر تسعة وتسعين عامًا، أيضاً روبرت بيرد في مجلس الشيوخ ممثل وست فرجينيا الذي توفي وهو في منصبه بعمر الثانية والتسعين سنة، هذه الأمثلة تجعل أميركا في مواجهة أزمة الأجيال التي تمكنت من الوصول إلى المواقع السياسية في خمسينات وستينات القرن الماضي ويواجهون تحديات العمر للبقاء في مناصبهم. قضية العمر يصعب تجاوزها أو الالتفاف حولها، فمثلاً لو تمكن الرئيس بايدن من الفوز في الرئاسة الأميركية لأربع سنوات قادمة فسوف يصل إلى عمر في السادسة والثمانين كرئيس، ولو تمكن ترمب من الفوز فسوف يتجاوز الثمانين عاماً، وكل تلك الحقائق تشكل نقاط ضعف لكلا المرشحين، ولكنها في ظل غياب البدائل، أصبحت السياسية الأميركية مضطرة لمواجهتها لقد أصبح التنافس الانتخابي الأميركي بعيداً كل البعد عن المظاهر التقليدية التي اعتدنا على سماعها من المرشحين، فقد تم استبدال تلك التقاليد بمناوشات ارتبطت بالعمر والقدرة على الصمود، فهل أميركا أمام أزمة عمر سوف تؤدي في النهاية إلى زهايمر سياسي في المستقبل؟!. السؤال الحيوي الذي تواجهه أميركا يقول: أين القادة الأصغر سناً في السياسة الأميركية..؟ أميركا اليوم تدفع ثمناً حضارياً باهظاً، فالمستويات الحضارية الاجتماعية والصحية المتقدمة غيرت من معادلة العمر، فأصبح الناس يعيشون لعمر أطول، ولذلك أصبح السياسيون في أميركا يمضون السنوات في سبيل تجميع السلطة لصالحهم، وهذا ما جعل تخليهم عن مواقعهم السياسية في الوقت المناسب قضية معقدة، فمثلاً الرئيس بايدن أمضى ما يقرب من خمسين عاماً كسياسي قبل أن ينتخب رئيساً، وهنا تواجه أميركا السؤال الأهم حول كيفية تحديد فترة التوقف التي يجب أن يواجهها السياسيون الأميركيون قبل مغادرتهم مناصبهم. الأميركيون يتحدثون عن المطالبة بضرورة إجراء اختبار الكفاءة العقلية للسياسيين الذين تزيد أعمارهم على خمسة وسبعين عاماً، وهذا دلالة على أن الأزمة العمرية في السياسية الأميركية أصبحت قضية أساسية يتوجب حلها، والحقيقة أن خروج أميركا من هذه الأزمة بحلول سياسية هو المسار الوحيد لإثبات حيوية السياسة الأميركية وقدرتها على تجاوز المحن عبر مناقشة قيمها وقواعدها السياسية وتحديثات دستورها الذي يعتبر اليوم أقدم الدساتير التي مازال العمل بها قائماً ومازالت موجودة.