أميركا نظرياً مازالت هي الدولة الأكبر والأهم في العالم وقد تبقى في هذه الأهمية لعقود قادمة، ولكن الحقيقة أن تأثير أميركا الدولي بدأ يتراجع كما أن وضعها الداخلي يثير الأسئلة، كما أن خيارات أميركا في حسم معاركها الدولية أصبحت محدودة ومرتبطة بقوى دولية أخرى.. بالنسبة لمنطقة الشرق الأوسط تعد السياسة في الولاياتالمتحدة مسألة جوهرية، فما يقرره الناخب الأميركي ينعكس وبشكل كبير على المنطقة، وكثيراً ما يلعب الناخب الأميركي دوراً مهماً في تقرير مصير التوجهات السياسية في منطقة الشرق الأوسط، لهذه الأسباب وغيرها تعد ظاهرة الانتخابات الأميركية موسماً مهماً في حياة دول الشرق الأوسط، فموسم الانتخابات الأميركية يعد أكثر أهمية من غيره في المنطقة، حيث أن المنطقة تدرك التأثيرات التي سوف يتركها ساكن البيت الأبيض، فتاريخياً ليس هناك فروقات كبيرة بين الحزبين الديموقراطي والجمهوري فيما يخص المنطقة ولكنها مسألة نسبية. لو استعرضنا سنوات آخر أربعة رؤساء في أميركا من جورج بوش الابن حتى بادين سوف نكتشف أنه لم تكن سنوات أي أحد منهم مختلفة بشكل جذري عن الآخر، فالمربع الذي تتحرك فيه الاستراتيجية الأميركية لا يتغير ولكن كل رئيس يختار زاوية مختلفة عن الآخر ولكنها ليس مضادة، فالجميع يجب أن يكون في ذات الإطار الاستراتيجي، والحقيقة أن الظاهرة التي لفتت الأنظار بين هؤلاء الرؤساء الأربعة كانت من نصيب الرئيس ترمب الذي جلب معه طبقة سياسية جديدة للدور الأميركي في حروب المنطقة، فالسياسية الأميركية في عهد ترمب سمحت لنفسها بالتوسع غير الضار ولكنه مفيد لها ولحلفائها في المنطقة خاصة مع إسرائيل، فاللغة السياسية في عهد ترمب أصبحت أكثر جراءة عند الحديث عن مستقبل المنطقة ومستقبل حلفاء أميركا، فإسرائيل حصدت خلال فترة هؤلاء الرؤساء الأربعة مكاسب لم تحصل عليها خلال جميع العقود التي مرت بعد احتلالها لفلسطين. المنافسة القائمة اليوم هي بين شخصيتين أصبحتا معروفتين لدى الشرق الأوسط وشعوبه، لذلك فإن حجم التوقعات سيكون منخفضاً إلى حد كبير فيما يخص أي تجديد في المسار الأميركي في المنطقة سواء أصبح ترمب رئيساً لأميركا أو بايدن، فإنه من السهل توقع التوجهات السياسة التي سوف يتخذانها، فمن الطبيعي أن الانتخابات الأميركية لا تحدد عبر الانتخابات الرئاسية، فالتغيير الناتج عن تغير الرئيس ليس فاعلاً في حسابات السياسة الأميركية تجاه الأزمات في منطقة الشرق الأوسط. السؤال المطروح الآن يدور حول التحولات الدولية التي يمكن لها أن تؤثر على السياسية الأميركية التي يشعر قادتها أنها تعاني من أزمة، فما بين شعار ترمب (أميركا أولاً) وشعار بايدن (أميركا عادت) تتناثر الكثير من الأسئلة حول المشاعر الكبرى التي تحملها هذه الشعارات والتي تعكس أن هناك أزمة حقيقية في مكانة أميركا داخلياً وخارجياً، لذلك فإن كلا المرشحين يبحثان عن إجابة السؤال ذاته: أين هي أميركا اليوم وأين يقع مستقبلها..؟ الأزمة الكبرى تكمن في أن سباق الرئاسة الأميركية لهذا العام يجري بين مرشحين أحدهما ديموقراطي في سن الحادية والثمانين والآخر جمهوري يبلغ من العمر ثمانية وسبعين عاماً، والواقع أنه خلال المناظرة التي جرت الأسبوع الماضي حاول المرشحان التمسك بالتقاليد الأميركية في مثل هذه الأحداث ولكن أبرز النتائج التي أظهرتها هذه المناظرة كانت تركز على صحة المرشحين وقدرتهما على إدارة البيت الأبيض. لقد كان اختبار القدرات الجسدية والعقلية لكلا المرشحين أهم الموضوعات التي برزت وتناولها الإعلام الأميركي، ففي البرنامج الشهير (ديلي شو) الذي يقدمه جون ستيورت قال بالحرف الواحد عن المرشحين بعد المناظرة إنه (يجب أن يستخدم كلا الرجلين أدوات تحسين الأداء)، في إشارة واضحة أن الانتخابات الأميركية الحالية تركز على القدرات الجسدية والعقلية أكثر من السياسية. أميركا في هذه الانتخابات تخوض تحديات جوهرية حول كفاءة أدائها الدولي، فمشكلة عمر بايدن تفاقمت إلى درجة أن الحزب الديموقراطي بدأ يطرح فكرة تغييره بآخر أكثر كفاءة من بايدن، كما أن لغة التكذيب التي استخدمت بين المرشحين تدل على فقدان لمنهجية الحوار بين الطرفين، وقد أثبتت هذه المناظرة أن لا ترمب سيجعل من أميركا أولوية ولن تعود أميركا كما يقول شعار بايدن. السؤال الأهم يقول هل ما يحدث في أميركا اليوم في ظل هذه الانتخابات المثيرة للأسئلة يدعو للقلق على القوة الأكبر في العالم..؟، أميركا نظرياً مازالت هي الدولة الأكبر والأهم في العالم وقد تبقى في هذه الأهمية لعقود قادمة، ولكن الحقيقة أن تأثير أميركا الدولي بدأ يتراجع كما أن وضعها الداخلي يثير الأسئلة، كما أن خيارات أميركا في حسم معاركها الدولية أصبحت محدودة ومرتبطة بقوى دولية أخرى، الواقع أن أميركا ما بعد 2024م ستدخل مرحلة سوف يتعين عليها القبول بقوى دولة كبرى ومتوسطة تشاركها التأثير الدولي، وهذا ما يؤكد أن النظام العالمي أصبح قريباً من تشكيل مساره القادم والذي غالباً سوف يعتمد تعدد الأقطاب.