مجموعة قصصية لافتة، قدمها الكاتب السعودي كاظم الخليفة، بعنوان: «مائل بخط الرقعة» تعددت محاورها الفكرية ورؤاها الفلسفية، لكن صوتها الرجالي جعل منها متميزة بجدارة، فحينما يكثر الحديث حول الكتابة النسائية أو الأدب النسائي أو الكتابة عن النساء في أي كتاب يتناول قضاياها، تلقائياً يخفت الصوت الرجالي حينها. وحتى لا يكون حديثي في معرض التصنيف الجندري سردياً، فإنني أعني بالكتابة عن الرجل أي عن حياته، وهمومه وعوالمه المهنية في البيئات الصناعية، أو تكليفه الأول المتمثل في الكد. وأقول في المقابل كتبت المرأة عن المرأة، وعن كل ما يكتنف همومها، أحلامها، أفكارها، ولم تترك مفصلاً يخصها فارغاً، وجاء الرجل وكتب عنها ولها سرداً وشعراً، بل وأكثر من ذلك، فقد كتب لها الكتب في الحياة الزوجية وتربية الأطفال، وأتساءل لمَ عناوين الرجل تكاد تكون فقيرة إن لم تكن كذلك!، وكم ستكون المصادفة سارّة لو قرأتُ كتاباً في مثل هذه العوالم سيما السرد، تتحدث عن الرجل ويكتبها رجل ومن مجتمعنا القريب أيضاً.. ولا أعني بهذه الكتابة الذكورية المتمثلة في التسيد والسلطة، بل أعني عالمه الداخلي وما يعتمل في ذهنه من أحاديث. في الحقيقة بعد أن فرغتُ من قراءة هذه المجموعة من القصص قلتُ يا لها من كتابة، كتابة (مائلة إلى خط الرجل)، هذا الرجل الميّال إلى الصمت وقلة الحديث عن نفسه وهمومه خلافاً عن المرأة، تبعاً لأسباب فطرية أو أسباب يفرضها المجتمع أو بسبب الانخراط في متطلبات الحياة التي يحملها على كاهله، أو التربية التي قيّدت تعبيره عن نفسه وهمومه منذ صغره، وهذا شيء قد حجب عنا الكثير كما أعتقد مما يمكن أن يقوله ونستمع له. سأتناول بعض المعالم البارزة في هذه المجموعة التي شكلت السرد في هذا الصوت الرجالي، يقول الكاتب في نص (انفجار): (تهرم لغتكَ ومن يهرم ننكسه في العمر، ترجع طفلاً في الثالثة وتخاطب عرائس ألعابك ودماك في عشرين، سبعين مفردة هي زادك الكلامي في يومك البائس، وإن شعرت أنها لا تكفي زينها بلغة جسدك المتخشب، أليس الجسد هنا هو أحد الموارد ومن أصول الشركة الثابتة!). وفي الإهداء تواجدت معاني القوة والصلابة، وإن كان الإهداء لم يحدد إلى رجل كان أو امرأة لكنه ينضح بملامح الرياح والصحراء التي لا يقوى لها إلا الرجال. إن ثمة ملامح بارزة تختص بالرجل في المجموعة، إننا نرى مفردات كالمعدات، الدواليب، المكنات، مولدات الكهرباء، صمام الوقود، وعبارات مفصلة لعالمه خَبِرها صنعةً ثم كتبها فكانت قريبة، يقول الكاتب في نص انفجار: (نجحتَ في اختبار الترويض وأصبحتَ مفكاً آخر في صندوق معدات العمل، فالصحراء حظيرة المكائن هائلة الحجم، والمعامل تنتصب مثل عفاريت ألف ليلة وليلة). نعود للمرأة، إذ لم تكن قصية عن النصوص، فقد حضرت بشكلٍ مختلف، ليست الضد، ليست الند، وليست الصراع، وجودها ناعم كما في نص حبة (إسبرين) حين يتراخى البطل عن أخذ حبة مسكن فيعبر عن انعكاس وجهها المحتقن في كأس الماء بالنور، كما يعبر عن أطيافها بالنور في نص (وكر الحب)، ونص (منذ أن تعثر في نسيج حريرها) اختتمه بالفراشات. في القصص القصيرة جداً نلاحظ أنها مختلفة عن عرضها المعتاد، فإن كان أغلب كتابها اعتمدوا على الحدث المتنامي المنتهي بالقفلة المخاتلة، نجد أن الكاتب قد عمد أن يجعل من متن القصة موضوعاً واكتفى به، وكانت القفلة سيريالية لم تعتمد على الإدهاش لكنه ساقها بأسلوب متماسك ومدروس. أما في الحديث عن اللغة، فإن الاشتغال اللفظي كان جلياً تحرى الجماليات والبساطة معاً، لم تكن اللغة مقعرة ذات زخرفة بل حظيت بتعبيرات لافتة وسلسة. وأما عن صوت الكاتب الذي غالباً نتخطاه في متن النص حين يظهر تنظيرياً أو مُوَجِّهاً، لكن الكاتب قد أدخله بانسجام ودراسة، أدى غرضه داخل النص بل وخارجه أيضاً، وسأختم مقالي بهذا الصوت الذي ظهر في نص (صوت آخر شفيف)، يقول الكاتب: (هناك دوماً فسحة للأمل، وطريقة أخرى للتعامل مع الحياة، متى ما استنفدت الطريقة القديمة صلاحيتها، قد تكون المشكلة منعطفاً، من خلاله تُكتشف جوانب أخرى للحل، ولا تأتي إلا من خلال هذه الكوارث، تجربتك الواعية مع الحياة واشتباكك المتواصل مع ما تفرزه من عقبات، هما ما ييسر لك الخروج من أزماتها بشرط أن تنظر إلى المسارات الممكن سلوكها في هذه المواقف). *كاتبة وناقدة سعودية