يسألني نجيب محفوظ عادة عن قراءاتي. وعندما قلت له انني انتهيت من قراءة مجموعتين قصصتين للشاعر إبراهيم ناجي، أبدى دهشته الشديدة. قال إنه على رغم معاصرته له وزمالته معه، حيث عملا معاً في وزارة الأوقاف لم يعرف انه كان يكتب القصة. والرجل مع ذلك له مجموعتان من القصص القصيرة. نشرت هذه القصص في الصحف والمجلات، ثم صدرت في كتابين بعد ذلك نجيب محفوظ يذكر عن ناجي أموراً. يتذكر الهجوم الرهيب الذي شنّه ضده طه حسين وعباس محمود العقاد بعد صدور ديوانه الشعري الأول. ويصف الهجوم بالقسوة غير المبررة. أما كون هذه القسوة قد تسببت في اتجاه ناجي إلى كتابه النثر، فلا يذكر ذلك ولا يتذكره. أيضاً يقول إنه لولا أن أم كلثوم غنت لناجي قصيدة "الأطلال" ما عرفه الناس واشتهر. يكمل نجيب محفوظ انه لولا أن محمد عبدالوهاب غنى "الجندول" لعلي محمود طه ما عرفه الناس أيضاً. ويتوقف أمام دلالة دور المطرب والمطربة في ذلك الزمن البعيد. لكن الشاعر حسن توفيق، صاحب هذا الكشف الأدبي، يصحح في مقدمته له ما غنته أم كلثوم لناجي. ذلك أن أم كلثوم لم تغن قصيدة "الأطلال". ولكنها غنت بالتحديد مقاطع منها وهي منشورة في ديوان "ليالي القاهرة" بعد أن مزجت تلك المقاطع مع مقاطع أخرى من قصيدة "الوداع" من ديوان "وراء الغمام". وكان ذلك في عام 1966، أي بعد انقضاء 13 عاماً على رحيل ناجي عن عالمنا. وبعدها أصبح اسم ناجي على كل لسان. وظل ناجي يترقب طويلاً أن يغني له عبدالوهاب قصيدته "أي سر فيك". ومع أن الصحف أعلنت أن "عبدالوهاب بك" قد انتهى من تلحين مقطوعة إبراهيم ناجي بك وكان ذلك عام 1951، إلا إن ناجي ظل ينتظر بلهفة وشوق. ولم تغن القصيدة إلا بعد وفاته بعام، أي في 1954. قال نجيب محفوظ ويروي نجيب محفوظ هذه الحكاية عن ناجي: يقول في الفترة التي كنت أعمل فيها في وزارة الأوقاف سكرتيراً برلمانياً لوزير الأوقاف كان ناجي يعمل رئيساً للقسم الطبي في الوزارة، وقد ذهبت إليه ذات يوم أشكو من حساسية في اليد. فقال لي أجلس أسمعك قصيدة تشفيك من المرض. ويضحك نجيب محفوظ. ويكمل سيد الحكايات، أن القصيدة شفته من الحساسية فعلاً. قرأت قصص ناجي التي كانت مفاجئة لي كجزء من مجلدين أصدرهما الشاعر حسن توفيق، وجمع فيهما كل تراث ناجي النثري من قصص ومقالات وترجمات قام بها في حياته. وحسن توفيق لم يكتفي بإعادة طبع كتب ناجي النثرية التي صدرت في حياته ولكنه جمع بعض هذه الكتابات من الصحف مباشرة. وقد نشر المجلدين على حسابه الخاص بعد أن سوفت إحدى المؤسسات الحكومية المصرية وماطلت في نشر المجلدين، على رغم تكليف أمينها العام له بموجب عقد رسمي له بجمع تراث ناجي النثري. ولأن حسن لم يصرح باسم هذه المؤسسة المعروفة لنا جميعاً، فلن أكتبه. وإن كان حسن توفيق يذكر تاريخ وفاة ناجي 24 آذار مارس عام 1953، فإنه لا يذكر تاريخ ميلاده. وقد قمت بعمل حساب حتى أتوصل إليه. فقد ذكر حسن أن بداية نشر ناجي لقصائده تعود إلى شهر تشرين الثاني نوفمبر عام 1921، بعد أن فرغ من دراسة الطب، وكان عمره وقتها 22 عاماً. وبحسبة بسيطة ندرك أن ناجي ولد عام 1899 ومات في الرابعة والخمسين من العمر. ليالي القاهرة وناجي لم يصدر في حياته سوى ديوانين، هما "وراء الغمام" 1934، و"ليالي القاهرة" 1950، ثم أصدر له صديقه أحمد رامي ديوانه الثالث بعد وفاته عام 1957، ولكنه أصدر في الوقت نفسه سبعة كتب نثرية، أي ما يصل إلى أكثر من ضعف الأعمال الشعرية. وإن كان أصدر ديوانه الأول في 1934، فإن كتابه النثري صدر في العام التالي مباشرة، وهو "مدينة الأحلام"، ثم "كيف تفهم الناس" وصدر في 1945. و"توفيق الحكيم، الفنان الحائر" الذي كتبه إسماعيل أدهم، وكتب له ناجي الفصل الأخير وصدر عام 1945، والكتاب الرابع "ليالي فينسيا"، وهو ليس من تأليف ناجي وحده، بل شاركه في كتابته صديقان أحدهما كان يكتب باسم مستعار. الكتاب الخامس "أدركني يا دكتور" وهو مجموعة من القصص القصيرة، صدرت عام 1950، والكتاب السادس: "رسالة الحياة" وصدر سنة 1952، والكتاب السابع والأخير "عالم الأسرة". تحت كلمتي "مدينة الأحلام" يكتب ناجي قصصاً ومحاضرات، ويهديه إلى الوالد العزيز أحمد بك ناجي. أول قصص سمعتها أذناي كانت من شفتيك، وأول كتاب قيم فتحت عليه عيني، تناولته من خزانة كتبك. ولذلك يهدي كتابه إلى معلمه الأول. المنار الذي شق له ظلمة الليل. الإهداء لم يكن فقط من علامات ذلك الزمان في تدوين الكتب، ولكن كانت هناك أيضاً مقدمة عنوانها: ذكريات ووداع: وذات ليلة منذ ثلاثين عاماً سمعت أبي يقص على أمي رحمها الله قصة "أوليفر تويست" لشارليز ديكنز، ويكتب ناجي عن تطور حياته وصدور ديوانه الأول: "بالأمس أخرج الشاعر ديوانه، واليوم أخرج القاص ما لديه من القصص". ويختتم مقدمته بكلمات لها صوت الشعر العالي: وداعاً أيها الشعر، وداعاً أيها الفن، وداعاً أيها الفكر. وداعاً ودمعه مرة وابتسامة أمرّ وعلى طريقة تلك الأيام نجد في المجموعة كل شيء. مدينة الأحلام قصة مصرية. وكانت جنسية القصة جزءاً من اسمها. ثم محاضرة عن ولز الأديب، والليل قصة معربة. و"النوافذ المغلقة" قصة مصرية. وقاسم أمين محاضرة، والمنبع قصة ملخصة، تأمل أمانة الترجمة في ذلك الزمان البعيد، حيث يقال عن القصة الملخصة إنها ملخصة، والحرمان قصة مصرية. والنواقيس من الأدب الإيطالي. أي أن المجموعة فيها نصوص غير المقدمة، منها أربع قصص قصيرة فقط. حتى مفهوم القصة القصيرة. الذي يتم تداوله الآن لم يكن له وجود في ذلك الوقت. فالقصة تتحرك في الزمان بصورة طولية. وعادة ما تكون هناك سنوات طويلة تفصل بين فقرة وأخرى. والحوار بين الشخصيات يكون مرة بالعامية ومرة أخرى بالفصحى، وذلك بحسب ثقافة الشخصية ووعيها وإدراكها اللغوي. "أدركني يا دكتور" المجموعة الثانية صدرت ضمن سلسلة "كتب للجميع". وكانت هذه من السلاسل الرائجة ذات الطابع الشعبي. وهو يهديها إلى زملائه الأطباء، وإلى مرضى القلوب، ومرضى الأجساد، ومرضى الأرواح، وإلى الشهداء الذين اكتظت بهم ساحة الحياة، وإلى من يتطلعون إلى السلوى وينشدون العزاء. يقدم الكاتب لهم هذه الاعترافات، هذه التجارب، هذه الأجواء - لا يقول أبداً هذه القصص. أو حتى هذه الحكايات - لعلهم يجدون فيها ما ينشدون من راحة لكروبهم وهدوء لقلوبهم. وبعد الإهداء، مقدمة يتكلم فيها عن الأطباء ومعرفتهم بالناس وعدم كلامهم عن الناس. ويتكلم في المقدمة عن الأدباء الأطباء، منهم السويدي سلفان أكزي، ودو هاميل. وكرونين صاحب قصة القلعة، وسيد أطباء القصة بلا منازع تشيكوف، صاحب القول المأثور: الأدب هو الصدق، وليس غير الصدق. لم يذكر يوسف إدريس الذي كان يخطو خطواته الأولى في هذا الوقت. من المؤكد أنه لم يكن عرفه، وإلا كان ذكره. فنفس ناجي التي أراها عبر قصصه، وقبل ذلك من خلال أشعاره، شفافة بيضاء، لا تعرف الكراهية، التي هي السمة الغالبة على علاقة المثقف بالمثقف الآن. يقول ناجي في هذه المقدمة: وبعد، فهذه اللمحات التي جمعتها من هذه التجربة وتلك. ومن ذلك الصدى وهذا، وسجلتها بحسب ما جرت. ودونت وقائعها كما حدثت. لقد دفعتني الى كتابة هذا الكتاب - لا يقول هذه القصص - حاجة ملحة في نفسي. ودافع لم أستطع مقاومته. لأنه عاش يؤمن أن المريض ليس حالة، كما يقول الأطباء كثيراً. وإنما هو إنسان، وأن العلاج لا يكون في تذكره الدواء دائماً، وإنما في فهم ذلك الإنسان، في مقاسمته آلامه، في الإصغاء إلى متاعبه، في بذل العطف الصادق له. في منحه الحنان الذي فقده في العالم الواسع، وضاقت به الدنيا على رحبها. وإن كانت المجموعة الأولى خليطاً من أشكال كتابية مختلقة. فإن هذه المجموعة فيها علاوة على المقدمة عشرون قصة قصيرة. يمكن القول ان لها وحدة موضوع. ولو أن عبارة "أدركني يا دكتور" لم تكن عنوان إحدى قصص المجموعة لجاءت عنواناً موفقاً يجمع القصص إلى بعضها، ويجعل منها عملاً فنياً واحداً له جو واحد. يوميات أبطال القصص إما أطباء أو مرضى، والمكان الذي تدور فيه الأحداث مستشفى أو عيادة طبيب، وإن كان بيتاً، ففيه مريض يزوره طبيب، في الأغلب الأعم. وأول قصة وعنوانها: "دادة حليمة" تبدأ هكذا: "عندما تخرجت في كلية الطب سنة 1930، لم يكن معي في جيبي غير قروش معدودة". ولا يعجب القارئ، فإن القرش كانت له قيمة في تلك الأيام. ولم يكن الجنيه يذكر كثيراً. لقد كان أجر الكشف عند الدكتور "نصف ريال" أي عشرة قروش فقط. ناجي يفضل ضمير المتكلم "أنا" في القص، وهذا لا يمنع من الاعتماد على ضمير الغائب "هو"، في بعض القصص، كما أن لليوميات مكاناً متميزاً في هذه المجموعة. له قصة عنوانها: "من مذكرات طبيب"، وأخرى: "اعترافات مريض"، وهما طرفا المعادلة في علاقات الأطباء مع المرضى، مع خلفيه عبارة عن المجتمع الذي وجدا فيه. في القصص شفافية وحزن وآسى، وإن كان هناك ميل إلى الكوميديا. والحب يكاد أن يكون الموضوع الجوهري للقصص، وهو حب عذري. وإن تطورت الأمور، فإن ناجي ينظر إلى العلاقة بين الرجل والمرأة من منظور أخلاقي بحت. كما أن الكاتب على رغم رومانسيته وعلى رغم أنه وصل إلى السرد من خلال نظم الشعر، إلا أنه يقدم الكثير من تفاصيل الواقع المعاش برؤية واقعية وإن غلفها ضباب الشعر. وهناك تأملات في حياة المصريين ما زالت صالحة لأن تقال عن المصريين حتى الآن: ان نصف المصريين يشكون من الكبت. والنصف الثاني لا يشكو من شيء مطلقاً، نصف مرهف الحس جداً. ونصف استحال الحس عنده مادة. والبطل دائماً هو طيب وشاعر وعاشق. والبطلة إن كانت من أهل الفن، لا بد من أن يكون اسمها زوزو، وفضلاً عن المؤلف الذي له قصة حب معروفة مع الفنانة زوزو حمدي الحكيم. وله مقال عنوانه: "ثلاث زوزوات عرفتهن"، وهو عن الفنانات: زوزو ماضي، وزوزو نبيل، وزوزو حمدي الحكيم. لا يخرج المقال عن محاولة التعريف بهن. وحتى عندما يعرف البطل ابنة الجيران يمنحها اسم زوزو أيضاً. والراوي يتكلم عن نفسه بصيغة الجمع. يقول قصتنا. أو القصة التي سنرويها، وهو حريص على تنويع أبطاله. ومن الأسماء يتضح أن هناك بعض الأبطال من المسيحيين، وإن كانوا قلة إذا قورنوا بأعداد المسلمين الذين يطلون علينا من هذا العالم القصصي الزاخر. ولم أجد بين أبطاله بطلاً يهودياً أبداً، مع أن هذه القصص كتبت، بعد بداية استيطان اليهود لفلسطين، وقبل حرب النكبة الأولى في 1948، عموماً السياسة وأهلها، لا وجود لها في أجواء القصص، ولا حتى في اهتمامات الأبطال، ومتابعتهم لما يجري في أرض الواقع من أحداث، هذا على رغم وجود حس اجتماعي شديد الوضوح في هذه القصص. وإن كانت شاعرية إبراهيم ناجي لا خلاف عليها، فإن سرده يستند إلى قراءات قصصية أولت القصة من الاهتمام ما يمكن أن يتساوى مع اهتمامه بالشعر. ولديه رموزه الخاصة بفن القصة، ويكتب عنها المقالات، ويلقي حولها المحاضرات. كما أن اهتمامه بالنفس الإنسانية وتناقضات أعماقها يبدو مؤكداً، بما يكتبه عن فرويد ونظريته. شعراء يتحولون إن كان إبراهيم ناجي أسعدتني قصصه، فإن الفصل في هذا الاكتشاف الأدبي الذي يوشك أن يتوه وسط سوقية الحياة الأدبية وغلظتها، إنما يعود الى شاعر آخر هو الشاعر حسن توفيق. فهل يكون هذا الاكتشاف مقدمة لأن يبدأ حسن نفسه بكتابه القصة؟! ما من شاعر أقابله الآن إلا وأجد لديه مشروعاً للكتابة السردية من قبيل النيات أو الأحلام المؤجلة، أو يكون خرج فعلاً إلى الوجود. وهذا فعله أيضاً أحمد شوقي منذ سنوات بعيدة، فالناقد الأدبي محمد عبدالمطلب، وهو من نقاد الشعر أساساً، وتحول إلى نقد السرد، يعمل الآن على جمع ست روايات نثرية ليست من المسرح الشعري كتبها أمير الشعراء أحمد شوقي. ويبدو أن تحول الشعراء إلى السرد سبق مقولة عصر الرواية بعشرات السنين. وأهداني في معرض الكتاب الأخير الشاعر محمد القيسي روايته الأولى "الحديقه السرية"، وأبلغني نبيل نوفل من "دار الآداب" أن أدونيس يكتب الآن نصاً روائياً، كما أنني علمت من محمود درويش أنه يعكف على نصٍ روائي، قد يكون عنوانه "البيوت"، عن بيوت الغربة التي سكنها، منذ أن ترك بيته الأول. والشاعر محمد عفيفي مطر، كتب قصصاً للأطفال ونشرها في المغرب.