هالني قضمه لأصابع الفلفل الحار الواحدة تلو الآخرى، لم أستطع ألا أنظر إليه فيما أتناول وجبة (المطبّق) الأثيرة عندي، كنت أيضاً أقضم قطعة صغيرة بحذر شديد إثر كل لقمة، مع عصرة من الليمون التي ترطب قرمشة الرقاق المقمّر. أنا لا أخرج كثيراً إلا لضرورة قصوى، وهذا المطعم الشعبي العتيق ضرورة أحتاجها بين الفينة والأخرى. ما يزال الرجل المتربع أمامي يقصف الفلفل غير آبه إلا بأطباق المقلقل والمعصوب والعدس، ألمح النادل وهو يحمل مزيداً من الفلفل إليه، التقت أعيننا فتبسمت اندهاشاً، فرد بابتسامة خفية لا تكاد تظهر لولا حركة عينيه، وكأنني أسمع آخر على طاولة مجاورة: لقد تناول ربع كيلو حرّاق. حين عزمت على المغادرة مشيت بلطف حتى اقتربت من النادل ثم أومأت باتجاه الرجل الجالس: هل ما يزال يلتهم الفلفل؟ نظر النادل إلى المكان، ثم التفت إلي في دهشة وربما إعراض عما قلت، حينها تيقنت أن سلوكي لم يعجبه خاصة والمطعم حريص على إرضاء زبائنه. خرجت دافعاً باب المطعم فيما لمحت جدي يسير بالقرب متوجهاً إلى المسجد قبيل صلاة العشاء، لم تبرحه الأناقة لحظة، ولم يغادر معطفه منكبيه إلا ساعة يأوي إلى فراشه، ناداني بصوت حازم فأقبلت: - ماذا تفعل هنا؟ - جعت يا جدي؟ - أ وليس في بيتنا طعام؟ - بلى يا جدي، ولكنك تعرف حبي للمطبق، ثم إني لا أخرج كثيراً. التفت الجد المهيب صوب بيتنا منادياً أخي الذي يصغرني، لم تمض ثلاث ثوانٍ إلا وهو ماثل أمامي مثل شبح. - خذ ناصر إلى المنزل، ثم الحق بي لتصلي. سرت مطواعاً، وأخي يوبخني: - أ لم أقل لك إذا أردت شيئاً أخبرني؟ - بلى، ولكني اشتقت إلى نزهة يسيرة، تناولت فيها وجبتي المفضلة. بدا أخي متعجباً: وأين أكلت؟ أشرت بيدي سريعاً: هناك في المطعم الشعبي، هدى الله جدي لولاه لكنت مشيت قليلاً في الطرقات التي أفتقدها. استجمع أخي نفسه، وقف مواجهاً لي، صوّب بصره نحوي: يا ناصر يا حبيبي، أنت الآن في الخامسة والثلاثين من العمر، أقدر ما بك كثيراً، ولكن اعلم أنه لا يوجد مطعم هنا، لقد أصبح المكان خرباً منذ سنوات، وجدي - رحمه الله - متوفى قبل عامين، لا يوجد في هذا المنزل سواي معك، وهذا القط الذي يلاحقني دوماً. نظرت فإذا مخلوق بشع لا يمكن أن يكون قطاً أبداً، أفلتّ يدي من قبضة أخي، ركضت مبتعداً، جاوزت الحيّ، قطعت شارعاً مزدحماً، دلفت زقاقاً ضيقاً، تعمقت فيه حتى وصلت الشرفة التي طالما مكثت تحتها، أرقب إطلالتها كلما آذنت الشمس بأفول الضوء، هنا اعترفت لها بحبي وولهي بغمازتيها، سأنتظر قليلاً ربما تطل، وقع أقدام يقترب، أطلقت ساقيّ بالهرب لأسقط فجأة في فوهة للصرف، لم يخرجني منها إلا صوت يقول: أيقظوه لقد كانت الجرعة مؤثرة. فتحت عيني على مكان أدركه وأعرف من فيه، إذ أُدخلت إليه بعد نشوة قاتلة لم أتعاف من آثارها بعد، كما يصرح بذلك طبيبي الواقف عند سريري الآن. سألته وأنا أتلمس جسدي المتخشب: أين أخي؟ وضع يده على ناصيتي: أنت هنا تسأل عن عالم لم يعد موجوداً.. اهدأ ونم.