لكلٍّ حديقته الخلفية وأسراره المخصوصة التي يحيطها بسياج من الصمت ويحصنها من المتلصصين. وإذا تعلق الأمر بالمشاهير -لاسيما المبدعين منهم- فإن المسألة تتخذ أبعاداً أخرى؛ ذلك أنه في حال الكشف عن هذه الخبايا، أو عن بعضها، فإنها ستحمل في طياتها، لا شك في الأمر، كثير من التفاصيل والمفاجآت التي لن تنير فقط معالم في حياة صاحبها، بل إنها ستشكل مفاتيح حقيقية للدخول إلى كونه الأدبي وعالمه الإبداعي. فلئن كان المبدع يعبِّر عن حياته النفسية وعن واقعه المعيش، أو حتى عن قضايا خيالية تجد بالضرورة جذوراً لها في الواقع، فإنه يترك بين ثنايا جمله، وفي تضاعيف نصوصه، ووراء سياج سيرة حياته إشارات وإلماعات تكشف الكثير والكثير مما لم يفصح عنه. فمثلما كانت المكتبة بوصفها فضاء المكان الأثير ل"ميشيل دو مونتينْيْ" وسره الصميم، فكذلك كان هوس "فرديناند دي سوسير" بالجناسات التصحيفية سراً أخفاه عن الكل وانخرط في ممارسته بعيداً عن أبحاثه اللسانية العلنية، إلى درجة أننا نتساءل حالياً هل كانت مجمل أعماله اللسانية الرائدة نابعة من رغبته في تقعيد الدراسات اللغوية وبنائها على أسس متينة، أو أن السبب الحقيقي يعود إلى فزعه وهلعه عندما لم يتمكن من حصر كل الجناسات التصحيفية الموجودة في نص بعينه؟ فرضية رهيبة، ستجعل علما بأكمله قد أُسس استجابة لهوس مجنون بقضية إنما تمتاح من آليات القول الشعري ولا ارتباط لها بالهمّ الأكاديمي. ومثلما تخفي حياة المبدعين أكثر مما تبدي، فكذلك العلاقات فيما بينهم. فلا يمكن لدارس لأدب روسيا في القرن التاسع عشر، على سبيل التمثيل، أن يمر دون الانعطاف نحو "فيودور دوستويفسكي" و"ليو تولستوي"، اللذين لم يتح لهما البتة أن يلتقيا مباشرة رغم أنهما عاصرا بعضهما البعض، بل اكتفيا بالإشادة المتبادلة بإنتاجات كل واحد منهما. بيد أن البحث في خبايا حياتهما سيكشف وجها آخر لهذه العلاقة التي كان فيها كل واحد منهما يعيب على الآخر أمورا عدة دون أن يصرح بها علنا. كذلك كان حال "ألبير كامو" و"جون بول سارتر" -الصديقان العدوَّان- و"فرانز كافكا" و"ماكس برود" اللذين تراوحت العلاقة بينهما بين الوفاء وخيانة العهد وغيرهم كثير. ولا تكمن لعبة الوجه والظهر هذه في حياة المبدعين ولا في العلاقات بينهم فقط، وإنما تنسحب كذلك على دواعي تأليف مؤلفاتهم أيضاً. فهذا "غزافيي دو ميستر" مثلا يؤلف عمله المعروف رحلة حول غرفتي في قالب رحلي كوميدي ساخر، إلا أنه كان يخفي كآبته وملله وسخطه بسبب ما ألمَّ به في حياته. من جانب آخر، ألا يعتبر الأدب في فترات الطغيان السياسي نوعا من التّقيّة التي تتيح للكاتب التعبير عما يريده بطريق التلميح والتضمين؟ ألم يكن "تينيانوف" يرغب -من خلال رائعته موت الوزير المختار- في فضح روسيا الستالينية، لكن حصار حرية التعبير والتشديد عليها جعله ينتقد حقبة سابقة عبر خلقه لتوازيات عدة بين الحقبة القيصرية في روسيا، والواقع الشيوعي المرير في مستهل القرن العشرين، مع تركه بين تضاعيف نصه لإشارات تتيح إمكان عقد مقارنات مع زمنه، وكأنها صُىوًى يقتفي القارئ العليم أثرها؟ وبهذا، يتضح أن الإخفاء والإضمار والتعتيم والتورية هي السمات الغالبة على حياة المبدعين، وعلى العلاقات بينهم، وكذا على دوافع كتابة أعمالهم؛ وهو ما يستدعي التنقيب والحفر في حياة الأدباء، وفي العلاقات التي ربطت فيما بينهم، في أفق إغناء تصوراتنا حولهم، وتشكيل رؤية جديدة تتيح فهما أوفى للظاهرة الأدبية ولسياقاتها التاريخية والاجتماعية والسيكولوجية، قد تكون منطلقا لإعادة قراءة شاملة ومتجددة لأشخاص ولنتاجات كنا نظن أنها معروفة بالنسبة إلينا؛ بيد أنها ليست كذلك مادامت في حاجة إلى عمل شبيه بما يقوم به عالم الآثار. وبذلك نكون بصدد التأسيس لما يمكن أن نصطلح عليه "أركيولوجيا أدبية" تختطّ لنفسها -مؤقتاً- مسارات ثلاثة: أركيولوجيا النفس الإبداعية، وأركيولوجيا العلاقات الاجتماعية، وأركيولوجيا النص الإبداعي. * أستاذ مبرز للتربية والتكوين المملكة المغربية فرديناند دي سوسير غزافيي دو ميستر يوري تينيانوف فرانز كافكا