ما الذي يُكسب "البدايات الجديدة" كل هذا الكم من الشغف الممزوج بالرهبة، والرغبة بالتجاوز المقيّدة بلهفة التعلّق؟! إنه "الوعي" والإدراك بأن رحلة الإنسان ليست سوى كرة متدحرجة يدفعها التغير والتطور وتبدّل الأحوال، ويحفظ استدامتها قدرة الإنسان على خوض التجارب، ومواجهة التحديات، وتوليد "الأنا الجديدة" المتعافية من أخطاء الماضي وعثراته، المتشافية من أعراضه السلبية، الخالية من الإحباط ولعنة التوقعات المستحيلة التي لا تجلب سوى الخيبات. وإذا ما أدركنا أن كل مرحلة من مراحل حياة الإنسان، هي خلاصة تجاربه ومواقفه وسلوكياته وعلاقاته الخاضعة للتغيير والتبديل والتطوير، وأيقنا حقيقة معادلة الذهاب والإياب وحتمية النهايات واستحالة الثبات؛ عندها فقط يصبح قرار التخطّي ناضجًا ومؤهلًا لرسم بداية جديدة أكثر وعيًا وتماسكًا واستقرارًا وقدرة على امتصاص الصدمات. المسألة لا تتعلّق هنا ببدايات "العمل" فحسب، والتي عادة ما تخفي في باطنها الكثير من المخاطرة، خاصة وأن تبعاتها لا تنحصر بحدود صاحبها بل وتمتد لمن هم في عباءة مسؤوليته؛ فالإنسان بطبعه كائن يميل إلى الاستقرار، ومهما بلغ طموحه فإن هاجسه من تقلّب الأحوال يبقى مستيقظًا إلى أن يصل إلى شط آمان آخر. لكن الأمر يسري كذلك على العلاقات الإنسانية بأنواعها وأشكالها العاطفية منها والودية وعلاقات الزمالة والعمل والصداقة، والتي عادة ما تتملكّنا الرغبة بأن تبقى محافظة على وهجها ونقائها وديمومتها، ويسكننا رفض داخلي بخسارتها أو فقدانها أو احتمالية إخفاقها، وكلما ارتفع منسوب هذا "الرفض" كانت الخسائر أكثر وقعاً والأعباء أكثر ألمًا. من هنا، كان الوعي والإدراك لحقيقة العلاقات هو وحده من يمنحنا "البصيرة" ويزودنا بالوقاية اللازمة الكفيلة بطي صفحات النهايات بسلام وأمان، لتكون مقدّمة لبدايات جديدة محاطة بعيون جديدة، وأحلام جديدة، وطموحات جديدة وعلاقات جديدة. وهذا لا يعني بحال من الأحوال أن البدايات الجديدة تحجب ما قبلها أو التبرؤ من كل ما فيه، بل إنها تطوّره وتخضعه لعملية تنقية وتمنح الجميل الذي فيه الطاقة والمزيد من الرونق والتناغم وجرعة الحياة للاستمرار والاستدامة بل والارتقاء. فمن المهم القول إن "الوعي" هو الخط الذي يفصل قرارنا بالمغادرة بين "الهروب" والضعف عن المواجهة، وبين "إنسانيتنا ونُبلنا وقيمنا المتأصّلة" التي تحتّم علينا عدم الاستمرار في تجربة ستجبرنا على الوقوع في وحل العدمية والنفاق والإخفاق والإصابة بمتلازمة "الأمل الزائف"! إن أفضل ما تكافئنا به البدايات الجديدة، تلك المساحة الصافية لإعادة التنفّس بعمق وراحة، وفرصة التخلّص من شوائب التجربة السابقة، وإعادة بناء ذاتنا وعلاقاتنا وفق رؤية أكثر عمقًا وواقعية ومنطقية، تحكم سلوكنا تجاه ما هو آت، وأكثر قدرة على تنظيم عواطفنا وأفعالنا وسلوكياتنا لتكون أكثر انسجامًا مع أهدافنا وتطلعاتنا وتوقعاتنا، وكما قيل: "فإن أفضل ما تهبه لنفسك في البدايات: العفو عن عدوك، والصبر على خصمك، والإخلاص لصديقك، والقدوة الحسنة لطفلك، والإحسان لوالديك، والاحترام لنفسك والمحبة لجميع الناس"!