خلال التأمل الطويل في الأوضاع الإنسانية على مستوى الأفراد وعلى مستوى العموم تَوَصَّلْتُ إلى عدد من المفاهيم منها مفهوم (العقل يحتله الأسبق إليه) ومفهوم (السوابق عوائق) ومفاهيم أخرى وقد استخدمت هذه المفاهيم في كتبي. إن ثبات الأنساق الثقافية المتوارثة وقدرة هذه الأنساق على المقاومة العنيدة لكل ما توصلت إليه العلوم يؤكد بوضوح شديد أن السوابق عوائق. لكن هذه المعضلة المعرفية ليست محصورة بعموم الناس أو بالأنساق الثقافية المتوارثة وإنما حتى داخل المجتمع العلمي نفسه، فإن التصورات العلمية الأقدم تكون عائقًا للاكتشاف ومانعًا للتطور والشواهد على ذلك كثيرة في تاريخ مختلف العلوم. وعلى سبيل المثال كان السائد في الطب أن قرحة المعدة تنتج عن الإجهاد وكانت تعالج إما بقطع العصب الحائر أو باستئصال الجزء المعطوب من المعدة. ولكن طبيبًا أستراليًا مبتدئًا لاحظ أن القرحات تعج بنوع من البكتيريا وبمتابعة حالات مختلفة وجد الظاهرة نفسها، وحين أعلن ذلك سخر منه الأطباء المتشبعون بالتصور الذي يحيل هذه المشكلة الطبية إلى الإجهاد. لكن الطبيب الشاب كان واثقًا من اكتشافه ولكنه جوبه بالرفض الصارم والسخرية المتعالية من زملائه لأنهم مبرمجون بتصور سابق فاستمروا في مقاومة الحقيقة الطارئة التي تتعارض مع ما درسوه وما تعاقبوا على الاقتناع به فاضطر الطبيب المكتشف أن يبتلع مزرعة من البكتريا نفسها فأصيب بقروح المعدة وبعد أن أثبت بالتجربة على نفسه صحة اكتشافه راح يعالج القرحة ليس بالعلاج الذي كان معهودًا وهو قطع العصب الحائر أو استئصال الجزء المقروح من المعدة وإنما عالج قروحه بمزيج من المضادات الحيوية وعلاجات أخرى تقضي على البكتريا. هذه الواقعة تؤكدها وقائع أخرى كثيرة في تاريخ العلوم وكلها تؤكد أن السوابق عوائق، وأن رفض الحقائق الطارئة هو رفْضٌ حتمي تلقائي فهو الرد التلقائي الحتمي لأي اكتشاف يتعارض مع تصور سابق، وبذلك ندرك حقيقة أن السوابق عوائق وهذه من أصعب المعضلات البشرية خصوصًا هيمنة الأنساق الثقافية المتوارثة.