في الوقت الذي يهرب فيه غالبية الناس من هموم الحياة إلى العزلة أو السفر، يختار الفنانون الهروب إلى الفن. يعتقد الكثيرون أن الفنان يرسم لأسبابٍ ماديةٍ بحتة أو ربما لكي يستمتع، ولكن العلاقة بين الفن والفنان أعمق من ذلك بكثير، يجد الفنانون في غرفة الفن الخاصة بهم الملجأ والرفيق، والمكان الذي يسمح للفنان بعيش لحظات تأمل خاصة بينه وبين فنه. بالنسبة لي أعتبر الفن هو مرشدي النفسي الأول ومساحتي الآمنة للتعبير، ففي الوقت الذي تشتد به عواصف حياتي أهرب إلى الفن، أتحدث إليه، وأبكي عليه، وغالبًا ما أبحر في محاولة فهم وتحليل أعمالي الفنية واكتشاف مشاعري الكامنة وراءها. كل فنان هو متأمل وليس كل متأمل فنانا، ففي الوقت الذي يخلو به الفنان بريشته أو قلمه، تهدأ أفكاره، ويسكن محيطه، وتبدو اللحظة بالنسبة له لحظةً أبدية، وكأنه أبحر بشغفه وسط محيطٍ بعيدٍ عن كل شيء. الفنانون الحقيقيون غالبًا ما تنتهي خلواتهم الفنية باستنارة، فقد يمارس الفنان فنه بحثًا عن إجابات، أو بحثًا عن شيءٍ يصلح كسرًا ما في داخله، وغالبًا ما يحقق الفنان غايته في نهاية الأمر. تريسي إيمين - الفنانة البريطانية الشهيرة - على سبيل المثال مرت بالعديد من التجارب الصعبة والمعقدة في حياتها؛ لهذا قررت استخدام الفن كوسيلة للتعبير عن تلك التجارب، والشفاء منها بالوقت ذاته. البولندية براونوسلافا كازينسكا كانت فنانة تشكيلية بجانب أنشطتها كشاعرة هي الأخرى تعرضت لتجربة صعبة في حياتها جراء تعرضها لحادثة حريق خطير، استخدمت الفن كجزء من رحلة علاجها وشفائها، إذ قامت بإنشاء مجموعة من الأعمال الفنية التي تعبر عن تلك التجربة وتساعدها على تجاوزها. من الممكن ألا يجد الفنان في بداية مسيرته مفتاح الاتصال مع ذاته، لذلك نجد الكثير من الفنانين المبتدئين يتخبطون في بداياتهم، فقد لا ينجحون في تهيئة مكانٍ مناسبٍ للخلوة الفنية، أو ربما تجدهم منشغلين في تقليد فنانين آخرين، أما بعضهم يعاني من هوس المثالية التي تفقده رؤية الصورة الكلية والعميقة للفن، كل هذه الممارسات تفقد الفنان اكتشاف الجواهر الثمينة الكامنة في داخله، مع ذلك يجب أن يدرك الفنان أن عملية الاتصال مع الذات من خلال الفن هي رحلة قد لا تبدو سهلةً وواضحة في بدايتها وغامضة في نفس الوقت، سوا أنه بالديمومة والاجتهاد سيتمكن الفنان من الوصول إلى أعمق نقطة في روحه وسيتمكن من الإبحار ببراعة هناك. الفن رحلة تشافي، ولو علم الناس ما في الفن من أهمية عظيمة لتطور الذات، لما بقي في الدنيا إنسان إلا وأصبح فنانًا.