مجموعة الشاعر السعودي يوسف المحيميد الشعرية الأولى، تفاجيء القارىء على أكثر من مستوى: الرؤية المفتوحة على ما في المخيّلة النشيطة من إمكانات، والعوالم التي ترتادها، والتي هي غالباً مشهديات صغيرة.. يومية وشبه عادية، ولكن المحيميد يكتشف حركتها الأعمق، تلك التي يمكن القبض عليها بالمخيلة الشعرية، لا بالحدقة المفتوحة. إنها مجموعة أولى لكاتب قصة سبق ان أصدر مجموعتين وقصصيتين، وهو هنا يواصل حوار مع العالم والحياة بأساليب ونظرات مختلفة: "بانهماك يحدّق في مرآة الماء، يرى ذاته والعالم، ولانه يعرف ان ما رآه مجرّد، مدّ بعنف أصابعه الى الماء، فانهار العالم، وبقيت ذاته طافحة في البراري". المتأمل في عناوين قصائد يوسف المحيميد، يجد ميلاً للكتابة عن اشخاص أو حالات خاصة لاشخاص. انه مفتون بإقامة معادل فني بين "أبطال" قصائده، وبين روح الدراما التي تمنح القصائد شيئاً من بنائية، لها وقع الحدث في حالات تصعيد، لا تقلل منها قلة سطور القصيدة، بل لعل كونها قصائد قصيرة، خاطفة ومكثفة يمنحها قوة تأثير أعلى، لا ينتهي بانتهاء القراءة: "لا مرفأ يلمّني، لو صار ذلك لدمّرته وتهت ثانية"ً. هذه الرغبة في البوح بما في الروح من مخزون هواجس، نجدها في قصيدة اخرى حملت عنوان "أجنحة"، وقد تصاعدت وتيرتها، آخذة من فن القصة ما يشبه ان يكون "أقصودة"، كما أطلق عليها البعض من النقاد اخيراً: "وقد رفعت ذراعيه العاريتين، راحت تطوف حوله باحثة، تدمدم: أين ذهبت؟ ولما لم تجدها نفضت عباءتها المطوية في الخزانة، وأدخلت ذراعيه في شقيها وبعد ان حنطته على عنقه، همست في ظلام غرفتها: ...". قصائد يوسف المحيميد تنمو عموماً نحو القص، فترغب في التعبير المكثف والمقتضب عن وقائع ما، تجمعها من الذاكرة مرات، ومن المخيلة مرات أكثر، وهي في هذه الحالة أو تلك تنتبه الى ما في تلك الوقائع من شعرية. شيء من عبثية الفانتازيا وإفلاتها من أية قبضة، يتراقص في قصائد الشاعر سعد الهمزاني، والذي يبدو في مجموعته "جدّ سابع للصمت"، شغوفاً الى حدٍ كبير، باستدراج الأشياء في التباساتها العبثية، التي قد تمنح الأشياء المعنوية كيانات مادية تجعلها قابلة للحوار معها. يكتب سعد الهمزاني مشدوداً الى فكرة متخيلة، ولكنها تصير المعادل الموضوعي، الذي يحيل كل الاشياء الى ما يشبه مادة حكائية، قابلة للسرد: "كتب الأعداد كلها حتى غلبها النوم / والأيام حتى انتهى الى يومه المنفيّ إليه في الغفله" شعرية قصائد سعد الهمزاني تتولد من نظرة الشاعر الى العالم المحيط من خلال حدقة لا تركن الى صورة الأشياء في واقعيتها السكونية، بل تنطلق الى ما وراء تلك الواقعية من رؤى وتفاصيل، بل من حيوات اخرى، تقدر ان تكتشفها المخيلة، وان تستدرجها الى أرض القصيدة. هذه المخيلة التي تشبه منظار رؤية، نجدها ملتحمة مع فكرة ما فيها الكثير من درامية القص وبنائيته، كما في هذه القصيدة التي حملت إسم "هدى": "لو أن لصوتي جوفاً / لوجدتها فيه / ممتطية أحد السّباع / وليكن النّمر / لا تتورع عن خدش الماء / الساكن في الجداول / بحجرٍ.. / بقدميها.. / بقصيدة.." إنسيابية المخيلة في قصيدة كهذه، تقع ايضاً على ما يشبهها من تقاطر الأفكار وتزاحمها، في وحدة موضوعية، ميزتها البساطة والشفافية، الصفات التي تجعل من قصيدة سعد الهمزاني مشغولة بعناية، وإن لم تفقد عضويتها. الصوت النسائي الوحيد بين شعراء المجموعات هذه، هو صوت الشاعرة فوزية أبو خالد، صاحبة "ماء السّراب"، والمسكونة بالكتابة، بوصفها فعل حياة، أكثر من كونها لغة تواصل، وهو سكون يلمحه القارىء منذ قصائد فوزية الأولى في المجموعة: "تكاد ان تذبل الزنبقة / ولكن.. / كلما نعست.. / رششتها بالحبر". لغة فوزية أبو خالد الشعرية، لا تذهب الى حداثتها من ممرات البحر عن كلمات هنا وهناك، قدر ذهابها الى تلك الحداثة من استسلامها لبواعث الشعرية الحقة في المشهد الحياتي ذاته. انها تقترب من الحياة الواقعية متسلحة بحدقة ومخيلة.. ومن جدل العلاقة بينهما تتساقط أمطار القصيدة. في "ماء السّراب"، ثمة تجريب يرتفع الى ذروة أعلى، كلما توجهت فوزية أبو خالد نحو هموم فلسفية - وجودية، إذ هنا ما يشبه الإصغاء العميق لتفاعلات يومية مع الإرث الحضاري الكبير، ومع القراءات الواعية، وهي سمات تمنح الشاعرة صوتاً له فرادة لا نقع عليها كثيراً في التجارب الشعرية الأولى التي لا تتمكن عادة من امتلاكها للخطاب الفلسفي، ذي الأبعاد المتعددة، فنجدها تراوح في مضائق الغنائية وتخومها، ففوزية أبو خالد، تقف على أرض صلبة من الوعي الممتزج بالعاطفة، والذي يصنع من هذا التمازج أفقاً لرؤية العالم والحياة من منظور شديد الخصوصية: "أسمع وسوسة القلب في نقاء الهواء / فردةً بقدمك الصغيرة / والأخرى خبّأتها بقلبي / جنود الأمير السعيد يبحثون عن / حذاء نصفه ذهبٌ ونصفه / أين ذهب". وبعيداً عن التقسيم التعسفي بين شعر للمرأة وآخر للرجل، يمكن القول ان صوت فوزية أبو خالد الشعري يحمل الكثير من لغة أينعت فيها أنوثة الشعر، الذي يرزح تحت وطأة تلك الأنوثة، بل ينهض بها الى مخاطبة حميمة مع قارىء لا يجد فاصلاً بينه وبين ذلك الخطاب الشعري: "أيّ فردوس انسلّ منه النساء / وسكبن الشراب / على... / شباب السابلة / نهرّب ماء السماء في سواد المساء / نقطّر شمساً نحاسية على شحوب الصحراء / نشك الأصابع بماس العسيب / أيّ نعاس يغالب صحو الصبايا". لا نستطيع في هذه المقالة أن ننشر النص الكامل لقصيدة فوزية أبو خالد "قصيدة النساء"، ولكننا نشير الى جاذبية هذه القصيدة التي تنطق باسم النساء جميعاً إنطلاقاً من روح الشاعرة ذاتها، وفي شفافية آسرة، تأخذ من الوعي، مثلما تأخذ من فطرة المرأة، واحساسها العالي بالحياة والجمال، وميلها الأبدي الى تلك الرياح الأزلية التي نرى الشاعرة تتساءل إزاءها: "أي رياح تخاطف الأشرعة / تمازج الطوفان بأطياف تطير / وتؤلف من كل زوجين إثنين". اعتقد ان "ماء السراب"، هي أهم المجموعات الشعرية في هذه السلسلة الجميلة، خصوصاً في انتمائها الى تلك الروح شبه الفطرية، والتي تجعل من الشعر حياة أو ما يقارب الحياة: "كان كلما ضمّ شفيته / على قبلة مشتهاة تؤلمه / ذكرى الفطام". إن جانباً مهماً من جمالية قصيدة فوزية أبو خالد، هو في ذلك الحضور الكثيف لذات الشاعرة، ولكن باندغام تامٍ مع المحيط العام، ففوزية تنطلق في قصيدتها من هموم داخلية لها وشائجها المتينة والمصيرية مع الواقع، وهي بذلك تقف على النبع الأصفى للشعرية، والتي تعتبر الذات هي الأساس، على العكس مما أشاع ويشيع كثير من النقد الكسول، الذي يحاول ان يوظف الشعر، خارج وظائفه، وان يزجه في ملهاة معارك ليست من معاركه بتاتاً. أما الشاعر احمد الملا، فقد أصدر من قبل مجموعته الأولى "ظلٌّ يتقصف"، وهو هنا في "خفيف ومائل كنسيان"، يحضر بقوة، وزاده قصائد تميل - في الغالب - الى التأمل والاسترجاع.. قصائد تنشغل بمخاطبة الحدث اليومي، في سياقات كبرى، مصيرية وذات أفق بعيد. إن صوت أحمد الملا يتنازل عن الغنائية البسيطة لينحاز الى الافعال الحياتية المركّبة، بوصفها حالات قصوى للمصير الإنساني، وهو إذ يفعل ذلك، انما يزج قصيدته في العلاقات والوشائج الشعرية الأصعب والأكثر كثافة وتكثيفاً، مستخدماً خلال ذلك لغة سردية شبه مباشرة، ومخيلة مفتوحة على الذاكرة.. تعيد استحضارها، وتعيد - في الوقت ذاته - تركيبها من جديد: "البارحة أفقنا على حجارة ترن، الرمل أنبت غابة، إخضرّت فجأة في وجهنا.. رفعت سماء واطئة عن كاهلين أوشكا.. قواريرُ مهملة تقافزت لمعتها، ثمراً في التدلي.. قمامة بثياب بيض وعلبٍ صدئة، نما فراؤها واستعطفت أقدامنا". تستعير بنائية أحمد الملا الشعرية شيئاً من سوريالية الصورة، وتوظفها في مناخها الخاص الذي يجمع تأملاً في سواد الواقع الى محاولة رؤية ما في هذا السواد من حركة دقيقة، يُعيد الشاعر تظهيرها في صورة أكبر، تقترب من عين القارىء ومخيلته معاً، فتبدو مثيرة للذعر: "الهواء يهبط من مراوح السقف / دخان مغموس بضحكات / ما ان تمتصني ذاكرة الخشب / ويمتلىء المكان بما يشبه خمش القطط / حتى ينفرط الصدر / وتهوي أذرع المراوح / ناشبة في الرأس" الأجواء التي تعيشها قصائد أحمد الملا في "خفيف ومائل كنسيان" أجواء متفردة عن تلك التي يعيشها زملاؤه، وهو يبدو مثلهم، وحيداً، وحائراً ولكن بطريقته الخاصة، حيث تتوغل الوحدة في الوحشة أكثر، وحيث يبدو الشاعر عازفاً عن ضوضاء المحيط، متأملاً فيما وراء الحركة العابرة. آخر كتب السلسلة، هو كتاب "أحاميم"، مجموعة الشاعر احمد ابراهيم البدق، والتي نعتقد انها مجموعته الشعرية الاولى. "أحاميم"، قصائد ذات انشغالات حياتية، شخصية وعامة، ترصد علاقة الشاعر بالآخرين في لغة مباشرة - غالباً -، لغة لا تناور على الصورة الشعرية ولا على المعنى بل هي تذهب اليهما في وضوح. "فجأة صاح باسمي، فانتصبت / قال لي: هل نسيت؟" ومع ان البوق يكتب قصيدة تشبه حواراً مع آخر صديق وحميم، وتتصف بالبساطة - في الاغلب - الا انه ينجح في جعل هذه البساطة نسيجاً شعرياً فيه الكثير من الرونق والنضارة. سلسلة أعمال الشعراء السعوديين العشرة، لا تعبر بالضرورة عن كل التيارات والمدارس الشعرية في المملكة العربية السعودية، فهذه تحتاج الى نظرات أوسع وأشمل، ولكنها تضيء جانباً من تلك الحياة الشعرية الجديدة والتي يشكل أفرادها في تفرقهم واجتماعهم أصواتاً مهمة، تتلمس التعبير بمواهب لا تخفي، مقتفين خطأ الحداثة الشعرية العربية والعالمية ومستفيدين من انجازاتها. أصوات اخرى جميلة تنضم الى سرب الشعراء، فتمنحه رنين غنائها الخاص.